للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم، كلما هلك ملك أرَّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده، فكرهوا ذلك. ومنهم من قال: أرخوا بتاريخ الروم من زمان إسكندر فكرهوا ذلك، ولطوله أيضًا، وقال قائلون: أرِّخوا من مولد رسول الله : وقال آخرون من مبعثه . وأشار علي بن أبي طالب وآخرون أن يؤرخ من هجرته من مكة إلى المدينة لظهوره لكلّ أحد فإنه أظهر من المولد والمبعث. فاستحسن ذلك عمر والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله وأرخوا من أول تلك السنة من محرَّمها، وعند مالك فيما حكاه السهيلي (١) وغيره أن أول السنة من ربيع الأول لقدومه إلى المدينة. والجمهورُ على أنَّ أول السنة من المحرم، لأنه أضبطُ لئلا تختلف الشهور، فإنَّ المحرمَ أول السنة الهلالية العربية.

وفي هذه السنة - أعني سنة ست عشرة - توفيت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله ، وذلك في المحرم منها فيما ذكره الواقدي وابن جرير (٢) وغير واحد، وصلَّى عليها عمر بن الخطاب، وكان يجمع الناس لشهود جنازتها، ودُفنت بالبقيع وأرضاها، وهي مارية القبطية، أهداها صاحب إسكندرية - وهو جريج بن مينا - في جملة تحفٍ وهدايا لرسول الله ، فقبل ذلك منه، وكان معها أختُها سيرين (٣) التي وهبها رسول الله لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن بن حسان. ويقال أهدى المقوقس معهما جاريتين أُخْرَيين (٤)، فيُحتمل أنهما كانتا خادمتين لمارية وسيرين. وأهدى معهن غلامًا خَصِيًّا اسمه مأبور، وأهدى مع ذلك بغلةً شهباءَ اسمها الدُّلدُل، وأهدى حلةَ حرير من عمل الإسكندرية. وكان قدوم هذه الهدية في سنة ثمان. فحَملت مارية من رسول الله بإبراهيم ، فعاش عشرين شهرًا، ومات قبل أبيه رسول الله (بسنة سواء. وقد حزن عليه رسول الله ) وبكى عليه وقال: "تدمع العينُ، ويحزنُ القلبُ، ولا نقول إلا ما يُرْضي ربَّنا، وإنا بك يا إبراهيمُ لمحزونون" (٥). وقد تقدم ذلك في سنة عشر. وكانت مارية هذه من الصالحات الخيرات الحسان. وقد حظيت عند رسول الله وأُعجب بها، وكانت جميلة ملَّاحة، أي: حلوة، وهي تشابه هاجر سرية الخليل، فإن كلًّا منهما من ديار مصر وتسرّاها نبيٌّ كريم، وخليل جليل، .


(١) في الأصل والمطبوع: حكاه عن السهيلي، و (عن) مقحمة.
(٢) في تاريخه (٤/ ٣٨).
(٣) في أ، ط: شيرين، وما أثبتنا عن الاستيعاب (٤/ ١٨٦٨) والإصابة (٤/ ٣٣٩).
(٤) في ط: أخرتين؛ وهو تحريف.
(٥) الحديث عن أنس ، وهو في مسند أحمد (٣/ ١٩٤) ومسلم في صحيحه (٢٣١٥) في الفضائل، وابن حبان في صحيحه (٧/ ٦٢) رقم (٢٩٠٢) في الجنائز.