للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أنَّ قريشًا تحالفوا بعد موت قُصَيّ، وتنازعوا في الذي كان جعله قُصَيٌّ لابنه عبد الدار، من السِّقاية، والرِّفادة، واللواء، والندوة، والحِجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف. وقامت مع كُلِّ طائفةٍ قبائلُ من قريش، وتحالفوا على النُصْرة لحِزْبهم، فأحضر أصحابُ بني عبد مناف جَفْنَةً فيها طيب، فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة (١). فسُمُّوا المُطَيَّبين كما تقدَّم، وكان هذا قديمًا، ولكنَّ المُرَاد بهذا الحِلْف حلف الفُضُول، وكان في دارِ عبد اللهِ بن جُدْعان كما رواه الحُميدي عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله، عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر (٢)، قالا: قال رسولُ الله : "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدْعان حِلْفًا لو دُعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردُّوا الفُضُول على أهلها وألَّا يعد (٣) ظالمٌ مظلومًا".

قالوا: وكان حلفُ الفُضول قبل المَبْعَثِ بعشرين سنة، في شهر ذي القعدة، وكان بعد حرب الفِجار بأربعة أشهر. وذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة. وكان حلف الفُضول أكرمَ حلفٍ سُمع به، وأشرفَهُ في العرب، وكان أول مَنْ تكلَّم به ودعا إليه الزُّبير بن عبد المطَّلب، وكان سبَبُه أنَّ رجلًا من زُبيد قدِمَ مكَّة ببضاعة، فاشتراها منه العاصُ بنُ وائل (٤)، فحبس عنه حقَّه، فاستعدَى عليه الزُّبيديُّ الأحلافَ: عَبْدَ الدار ومخزومًا وجُمَح وسهمًا وعَدِيَّ بن كعب، فأبَوْا أنْ يُعينوا على العاص بن وائل، وزَبَرُوه -أي: انتهروه- فلمَّا رأى الزُّبيدي الشرّ، أوفى على أبي قُبَيْس (٥) عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وأنشد (٦): [من البسيط]

يا آلَ فِهْرٍ لمظلومٍ بضاعتَه … ببطنِ مكة نائي الدارِ والنَّفَرِ

ومُحْرِمٍ أشْعَثٍ لم يقضِ عُمْرَتَه … يا للرِّجالِ وبين الحِجْرِ والحَجَرِ

إنَّ الحرامَ لِمَنْ تمَّتْ كرامَتُه … ولا حرامَ لثوبِ الفاجرِ الغَدِرِ

فقام في ذلك الزُّبير بن عبد المطَّلب وقال: ما لهذا مُتَّرَك؟ فاجتمعتْ هاشمٌ وزُهْرَة وتَيْم بنُ مُرَّة في دار عبد الله بنِ جُدْعان، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في ذي القَعْدَة، في شهرٍ حَرَام، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدةً مع المظلومِ على الظالم، حتى يُؤَدَّى إليه حقُّه، ما بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً (٧)، وما رَسَا ثَبِيرٌ


(١) في ط: بأركان البيت.
(٢) في ح: عن عبد الله بن محمد وعبد الرحمن بن أبي بكر. والمثبت من ط والروض (١/ ١٥٥) وسيأتي بسياق مختلف (ص ٨٥).
(٣) كذا في ح، ط وفي الروض: يعز بالزاي المعجمة. قلت: لعله من الوعد والوعيد بالشر، انظر اللسان (وعد).
(٤) زاد السهيلي في الروض (١/ ١٥٦) وكان ذا قدر بمكة وشرف.
(٥) "أبو قبيس": جبل مشرف على مسجد مكة معجم البلدان (قبيس، ٤/ ٣٠٨).
(٦) كذا في ح وفي ط: فنادى بأعلى صوته. وفي الروض: فصاح بأعلى صوته. والأبيات فيه.
(٧) يعني إلى الأبد، وهذا القول من أمثالهم، ساقه الجاحظ في الحيوان (٤/ ٤٧٠) والبيان والتبيين (٣/ ٧) والزمخشري =