للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

يكرهه، فذهب بهِ معه. فإذا هم ستة أو سبعة، كأنَّ الرَّوحَ قد خرجتْ منهم من العبادة، يصومونَ النهار ويقومونَ الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فذكر عنهم أنهم يؤمنونَ بالرُّسُل المتقدِّمين، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه وابنُ أمَتِه، أيَّدَهُ بالمعجزات. وقالوا له: يا غلام، إنَّ لك ربًّا وإنَّ لك معادًا، وإنَّ بين يديك جنةً ونارًا، وإنَّ هؤلاء القومَ الذين يعبدون النِّيرانَ أهلُ كفرٍ وضلالة، لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين.

ثم جعل يتردَّدُ مع ذلك الغلام إليهم، ثم لزمهم سلمانُ بالكليَّة؛ ثم أجلاهم ملِكُ تلك البلاد، وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه، واحتبسَ الملكُ ابنَهُ عنده، وعرض سلمان دِينَهم على أخيه الذي هو أكبر منه، فقال: إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة، فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسةَ المَوْصل، فسلَّم عليهم أهلُها ثم أرادوا أن يتركوني عندهم، فأبَيْتُ إلا صُحْبتَهم؛ فخرجوا حتى أتَوْا واديًا بين جبال، فتحدَّر إليهم رهبانُ تلك الناحية يسلِّمون عليهم، واجتمعوا إليهم وجعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنه، ويسألونهم عني فَيُثنون عليَّ خيرًا. وجاء رجلٌ معظَّم فيهم، فخطبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، وذكَرَ الرُّسل وما أُيِّدوا به، وذكر عيسى ابن مريم، وأنه كان عبدَ الله ورسولَه، وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان ولزمه. قال: فكان يصومُ النهار ويقوم الليل، من الأحد إلى الأحد، فيخرج إليهم ويَعِظُهم ويأمرُهم وينهاهم، فمكث على ذلك مُدَّةً طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المَقْدِس، فصحبه سلمانُ إليه. قال: فكان فيما يمشي يلتفتُ إليَّ ويُقبل عليّ، فيعِظُني ويُخبرني أنَّ لي ربًا، وأنَّ بين يديَّ جنةً ونارًا وحسابًا، ويعلِّمني ويذكِّرُني نَحْوَ ما كان يُذكِّر القومَ يومَ الأحد. قال: فيما يقول لي؟ يا سلمان، إنَّ الله سوفَ يَبْعَثُ رسولًا اسمُه أحمد، يخرج من تِهَامة (١)، يأكل الهديَّة، ولا يأكل الصدقة، بين كتفَيْه خاتم، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأمَّا أنا فإني شيخٌ كبير، ولا أحسبني أُدركه، فإن أدركتَهُ أنتَ فصدِّقْه واتَّبعْه. قلت له: وإنْ أمرني بترك دينكَ وما أنت عليه؟ قال: وإنْ أمرك، فإنَّ الحقَّ فيما يجيءُ به، ورِضَى الرحمن فيما قال.

ثم ذكر قدومَهما إلى بيت المقدس، وأنَّ صاحبه صلَّى فيه هاهنا وهاهنا، ثم نام، وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظِّلُّ مكان كذا أنْ يُوقظه، فتركه سلمانُ حينًا آخر أزْيَدَ مما قال ليستريح، فلما استيقظ ذَكَرَ الله ولامَ سلمانَ على تَرْك ما أمْرَهُ بهِ من ذلك. ثم خرجا من بيت المقدس، فسأله مُقْعَدٌ فقال: يا عبد الله، سألتُكَ حين وصلت فلمْ تعطني شيئًا، وها أنا أسألك. فنظر فلم يجدْ أحدًا، فإخذ بيده وقال: قُمْ بسم الله، فقامَ وليس به بأسٌ ولا قَلَبَه (٢)، كأنما نَشِط من عِقَال (٣)؛ فقال لي يا عبد الله، احْمِلْ عليَّ متاعي حتى


(١) ويروى: ويخرِج بتهامة وكلا الروايتين مثبت في ح.
(٢) يقال: ما به قَلبَة: أي ألمٌ وعِلّة يخشِى عليه منها. التاج (قلب).
(٣) جاء في اللسان (نشط): ويقال للآخذ بسرعة في أي عمل كان، وللمريض إذا بَرَأ … كأنما أُنْشِط من عقال، نشط أي حُلّ؛ قال ابن الأثير: وكثيرًا ما يجيء في الرواية: كأنما نشط من عقال، وليس بصحيح. النهاية (٥/ ٥٧).