للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بعض الروايات ترجُف بآدِلُه، واحدتها بَأْدَلَة. وقيل بَأْدَل، وهو ما بين العُنق والتَّرْقُوة، وقيل: أصْلُ الثَّدْي، وقيل: لحم الثَّدْيَيْن، وقيل غير ذلك.

فقال: "زَمِّلُوني زَمِّلُوني" فلما ذهب عنه الرَّوْعُ قال لخديجة: "ما لي؟ أيّ شيءٍ عَرَضَ لي؟ " وأخبرها ما كان من الأمر. ثمّ قال: "لقد خَشِيتُ على نفسي"، وذلك أنه شاهَدَ أمرًا لم يَعْهَدْهُ قبل ذلك، ولا كان في خَلَدِه، ولهذا قالت خديجة: أبْشِرْ، كلا واللّه لا يُخْزِيكَ اللّهُ أبدًا. قيل من الخِزْي، وقيل من الحُزن، وهذا لعلمها بما أجرى اللّهُ به جميلَ العوائدِ في خَلْقِهِ؛ أي: مَنْ كان متصفًا بصفات الخير لا يَخْزَى في الدنيا ولا في الآخرة. ثم ذكرتْ له من صفاتِه الجليلة (١) ما كان من سجاياه الحسنة. فقالت: إنك لتصِلُ الرَّحِم، وتَصْدُقُ الحديث - وكان مشهورًا بذلك صلواتُ اللَّه وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمِلُ الكَلَّ؛ أي: عن غيرِك، تُعطي صاحبَ العَيْلَةِ (٢) ما يُريحُهُ من ثِقَلِ مُؤْنَةِ عِياله - ويكْسِبُ المَعْدُوم، أي تسبقُ إلى فعل الخير، فتبادر إلى إعطاء الفقير، فتكسب حسنته قبل غيرك. ويسمَّى الفقيرُ مَعْدُومًا لأنَّ حياتَهُ ناقصة، فوجودُهُ وعَدَمُه سواء، كما قال بعضهم (٣): [من الخفيف]

ليس مَن مات فاستراحَ بمَيْتٍ … إنَّما الميْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ

وقال أبو الحسن التّهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم: [من الخفيف]

عُدَّ ذا الفقرِ ميِّتًا، وكُسَاهُ .... كَفَنًا باليًا، ومأواهُ قَبْرا (٤)

وقال الخطابي (٥): الصواب: وتكسب المعدوم؛ أي: تبذلُ إليه، أو يكون: وَتكسِبُ المعدمَ بعطيه مالًا يعيشُ به. واختار شيخُنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي أنَّ المراد بالمعدوم هاهنا المال المُعْطى، أي: يُعطي المال لمن هو عادِمُه. ومن قال: إن المراد تَكْسِبُ باتِّجَارِكَ المالَ المعدوم، أو النفيس، القليل النظير، فقد أَبْعَدَ النُّجْعَة، وأَغْرَقَ في النَّزْع (٦)، وتكلَّف ما ليس له به علم، إنَّ مثل هذا لا يُمدَحُ به غالبًا، وقد ضعَّف هذا القول عياضٌ والنووي وغيرُهما، والله أعلم.


(١) في: الجميلة.
(٢) "العَيْلَة": الفقر والحاجة.
(٣) هو عدي بن الرعلاء الغساني، قاله في عدة أبيات أوردها الحافظ ابن عساكر في ترجمته، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (١٦/ ٣٠٦) وتخريجها فيه وفي الحماسة الشجرية (١/ ١٩٤).
(٤) البيت من قصيدة في ديوان أبي الحسن التهامي (ص ٣٧) يمدح بها الشريف أبا عبد الله محمد بن الحسين النصيبي المتوفى سنة ٤٠٨ هـ.
(٥) لم أجد قول الخطابي في كتابيه معالم السنن وغريب الحديث.
(٦) النجعة في الأصل: طلب الكلأ ومساقط الغيث، وأبعد: اشتط وذهب بعيدًا. والمراد هنا: أي اشتط في طلب هذا المعنى. وأغرق في النزع: أي أغرق النازع في قوسه؛ أي استوفى مدها ليصيب هذا المعنى البعيد، وهو يضرب مثلًا للغلو والإفراط التاج (نجع، بعد، غرق).