للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العاص: والله لآتينَّه غدًا بما أستأصل به خضراءهم، ولأخبرنَّه أنهم يزعمون أنَّ إلهه الذي يعبد عيسى ابن مريم عبد. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإنَّهم وإن كانوا خالفونا فإنَّ لهم رحمًا ولهم حقًا. فقال: والله لأفعلن!.

فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيمًا. فأرسلْ إليهم فسلْهم عنه. فبعث والله إليهم ولم ينزل بنا مثلُها، فقال بعضُنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم (١) عنه؟ فقالوا: نقول والله الذي قاله الله فيه، والذي أمرَنا نبيُّنا أن نقوله فيه، فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولونَ في عيسى ابن مريم؟ فقال له جعفر: نقولُ هو عبد الله ورسوله وروحُه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول. فدلَّى النجاشيُّ يده إلى الأرض، فأخذ عودًا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العُوَيد. فتناخرتْ بطارقته. فقال: وإن تناخرتُم والله! اذهبوا فأنتم سُيُومٌ في الأرض -السُّيُوم: الآمنون في الأرض (٢) - مَنْ سبَّكم غَرِم، من سبَّكم غرِم، من سبَّكم غرِم -ثلاثًا- ما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا وأني آذَيْتُ رجلًا منكم- والدَّبْرُ بلسانهم الذهب.

وقال زياد عن ابن إسحاق: ما أُحِبُّ أنَّ لي دَبْرًا من ذهب؛ قال ابن هشام: ويقال: دَبْرًا (٣)، وهو الجبل بلغتهم -ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ اللهُ مني الرِّشْوَة حين ردَّ عليَّ مُلْكي، ولا أطاعَ الناسَ فيّ فأطيع الناس فيه. رُدُّوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها، واخْرُجا من بلادي: فخرجا مقبوحَيْن مردودًا عليهما ما جاءا به.

قالت: فأقمنا مع خير جارٍ في خير دار، فلم ينشَبْ أنْ خرجَ عليه رجلٌ من الحبشة ينازعُه في مُلْكه، فوالله ما علمنا حُزْنًا حزِنَّا قطُّ هو أشدَّ منه، فرَقًا من أن يظهر ذلك الملكُ عليه، فيأتي ملكٌ لا يعرفُ من حقِّنا ما كان يعرفه، فجعلْنا ندعو الله ونستنصرُه للنجاشي فخرج إليه سائرًا، فقال أصحابُ رسولِ الله [بعضهم لبعض] (٤): مَنْ رجلٌ يخرجُ فيحضر الوقعة حتى ينظرَ على مَنْ تكون؟ وقال الزُّبير -وكان من أحدثهم سِنًّا-: أنا. فنفَخُوا له قِرْبَةً فجعلها في صدره، فجعل يسبحُ عليها في النِّيل حتى خرج من شِقِّه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشيُّ عليه. فجاءنا الزُّبير، فجعل يُليحُ لنا بردائه ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشيّ. قلت: فوالله ما علمنا فرِحْنا


(١) في ح، ط: يسألكم، والمثبت من مصادر الخبر.
(٢) في النهاية لابن الأثير (سيم): امكثوا فأنتم سيوم. أي آمنون: كذا جاء تفسيره في الحديث، وهي كلمة حبشية، وتروى بفتح السين. وقيل: سيوم جمع سائم، أي تسومون في بلدي كالغنم السائمة لا يعارضكم أحد. اهـ. وفي ح والسير والمغازي: شيوم. بالشين المعجمة.
(٣) في ط: زبرًا، وفي ح: زيرًا، وكلاهما تصحيف، والمثبت من سيرة ابن هشام (١/ ٣٣٨) والنهاية لابن الأثير (دبر).
(٤) ما بين المعقوفين ليس في ح وهو من دلائل البيهقي.