للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها. فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥] وقوله: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [الجاثية: ٧].

قال ابن إسحاق (١): وجلس رسولُ الله فيما بلغنا (٢) - يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد، فجاء النَّضْر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غيرُ واحدٍ من رجال قريش، فتكلَّم رسولُ الله فعرض له النضر، فكلَّمه رسولُ الله حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨ - ١٠٠]. ثم قام رسولُ الله ، وأقبل عبد الله بن الزِّبَعْرَى السَّهْمِيّ حتى جلس، فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قامَ النضْرُ بن الحارث لا بن عبد المطَّلبِ آنفًا وما قعد، وقد زعم محمدٌ أنَّا وما نعبدُ من آلهتنا هذه حَصَبُ جهنَّم. فقال عبد الله بن الزِّبَعْرَى: أَما والله لو وجدتُه لخصَمْتُه، فسلوا محمدًا أكلُّ ما (٣) يُعبَدُ من دون الله حَصَب جهنم مع من عَبَدَه؟ فنحن نعبدُ الملائكة، واليهود تعبدُ عُزَيْرًا، والنصارى تعبدُ عيسى. فعجِبَ الوليدُ ومَنْ كان معه في المجلس من قول ابن الزِّبَعْرَى! ورأَوْا أنه قد احتجَّ وخاصم. فذُكر ذلك لرسولِ الله . فقال: "كلُّ مَن أحبَّ أن يُعبد من دونِ الله فهو مع مَنْ عبَدَهُ في النَّار، إنَّهم إنما يعبدُون الشياطين ومن أمَرَتْهُمْ بعبادته". فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (١٠١) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠١ - ١٠٢] أي: عيسى وعُزَير ومَنْ عُبد من الأحبار والرُّهْبان الذينَ مضَوْا على طاعةِ الله تعالى. ونزّل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بناتُ الله ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦]. والآيات بعدَها ونزّل في إعجاب المشركين بقول ابن الزِّبَعْرَى ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: ٥٧ - ٥٨] وهذا الجدل الذي سَلَكُوه باطلٌ وهم يَعْلَمُون ذلك لأنهم قومٌ عَرَبٌ ومِنْ لُغتِهم أنَّ ما لما لا يعقل، فقوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] إنما أُريدَ بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانتْ صورَ أصنامٍ، ولا يتناولُ ذلك الملائكةَ الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيحَ، ولا عُزيرًا، ولا أحدًا من الصالحين لأنَّ اللفظ لا يتناولهم لا لفظًا ولا معنىً. فهم يعلمون أنَّ ما ضربوه بعيسى بنِ مريم من المَثَل جدلٌ باطلٌ كما قال الله تعالى ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾. ثم قال: ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي عيسى ﴿إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ أي بنبوَّتنا ﴿وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الزخرف: ٥٩] أي دليلًا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد


(١) سيرة ابن هشام (١/ ٣٥٨) والروض (٢/ ١٠٦).
(٢) في سيرة ابن هشام والروض: فيما بلغني.
(٣) في ط: أكل من بعده. والمثبت من ح وسيرة ابن هشام والروض.