للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يومئذ سيد الأحابيش (١) فقال (٢): أين يا أبا بكر؟ قال: أخرَجني قومي وآذَوْني وضيَّقُوا عليَّ قال: ولم؟ فوالله إنَّك لتزيِّنُ العشيرة، وتُعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسِبُ المعدوم؛ ارجعْ فإنك في جِوَارِي. فرجع حتى إذا دخل مكة قام ابنُ الدُّغُنَّة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرتُ ابنَ أبي قُحافة فلا يعرِضْ له (٣) أحدٌ إلا بخير. قالت: فكفُّوا عنه. قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جُمَح، فكان يصلي فيه، وكان رجلًا رقيقًا إذا قرأ القرآن استبكى. قالت: فيقف عليه الصبيانُ والعبيد والنساء يَعْجَبُون لما يَرَوْنَ من هيئته! قالت: فمشى رجالٌ من قريش إلى ابنِ الدُّغُنَّة فقالوا: يا ابنَ الدُّغُنَّة، إنك لم تُجِرْ هذا الرجل ليؤذيَنا، إنه رجلٌ إذا صلَّى وقرأ ما جاء به محمد يَرقّ، وكانت له هيئة، ونحن نتخوَّف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يَفْتِنَهم، فأْتِهِ فمُرْهُ بأن يدخل بيته فليصنَعْ فيه ما شاء. قالت: فمشى ابن الدُّغُنَّة إليه فقال: يا أبا بكر، إني لم أُجِرْكَ لتؤذيَ قومَك. وقد (٤) كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذَّوْا بذلك منك، فادْخُلْ بيتك فاصنع فيه ما أحببت. قال: أوَ أردّ عليك جوارك وأرْضَى بجوارِ الله؟ قال: فارْدُدْ عليَّ جواري. قال: قد ردَدْتُه عليك. قالت: فقام ابنُ الدُّغُنَّة فقال: يا معشر قريش، إنَّ ابنَ أبي قُحَافة قد ردَّ علي جواري فشأنكم بصاحبكم.

وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفردًا به، وفيه زياداتٌ حسنة، فقال (٥): حدَّثنا يحيى بن بُكير، حدَّثنا الليث، عن عُقَيل، قال ابن شهاب (٦): فأخبرني عروة بن الزُّبير أنَّ عائشة زوجَ النبيِّ قالت: لم أعْقِلْ أبويَّ (٧) قط إلا وهما يَدِينان الدِّين، ولم يَمُرَّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسولُ الله طرَفي النهار بُكْرَةً وعشيَّة، فلما ابتُليَ المسلمون خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكَ الغِمَاد، لَقِيَهُ ابنُ الدُّغُنَّة -وهو سيدُ القارَة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي


(١) في ح: القارَة، وسيأتي، والقارة: قبيلة مشهورة من بني الهون بن خزيمة كما في جمهرة الأنساب لابن حزم (ص ١٨٨، ١٩٠) وسيرة ابن هشام (١/ ٣٧٣) وفتح الباري (٧/ ٢٣٣).
(٢) زادت ط ما نصه: قال الواقدي: اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة. وقال السهيلي: اسمه مالك. قلت: جعلتُ هذه الزيادة في الحاشية لأنها ليست في ح، من جهة ولا يعقل أن تكون من ابن إسحاق لتقدمه على الواقدي والسهيلي من جهة أخرى، ثم إن ابن كثير ينقل عن ابن إسحاق وهو ما جاء في سيرة ابن هشام الذي أحلت عليه في أول الخبر. وقول السهيلي هذا في الروض (٢/ ١٢٧) أما قول الواقدي فلم أجده في طبقات ابن سعد. ولعل هذه الزيادة كانت تعليقًا في الحاشية على الكتاب فأدخلها بعض النساخ إلى المتن. والله أعلم.
(٣) في سيرة ابن هشام (١/ ٣٧٣): فلا يعترض إليه.
(٤) في ح: أي قد وفي سيرة ابن هشام: إنهم قد. وهو أشبه.
(٥) فتح الباري (٣٩٠٥) مناقب الأنصار باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة، وساقه مختصرًا في (٤٧٦) الصلاة باب المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.
(٦) في ط: قال ابن هشام. تحريف، والمثبت من ح وفتح الباري. وعُقيل هو ابن خالد بن عقيل الأيلي الأموي مولى عثمان، ترجمته في تهذيب التهذيب، يروي عن ابن شهاب الزهري وعنه الليث بن سعد.
(٧) في ح، ط: أبواي، والمثبت من فتح الباري.