للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يتجَهَّمُني، أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَهُ أمْرِي؟ إنْ لم يكنْ بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، ولكنْ عافيتُك هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات (١)، وصَلَح عليه أمْرُ الدنيا والآخرة، من أنْ تُنْزل بي غضَبَك، أو يَحِلَّ عليَّ سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بك" (٢).

قال: فلما رآه ابنا ربيعةَ عتبةُ وشيبةُ، وما لَقِيَ تحركتْ له رَحِمُهما، فدَعَوْا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له عدَّاس فقالا له: خُذْ قِطْفًا من هذا العِنَب فضَعْهُ في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عدَّاس، ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسولِ الله ثم قال له: كُلْ. فلما وضع رسولُ الله يده فيه قال: "بسم الله". ثم أكل، فنظر عدَّاسٌ في وجهه ثم قال: واللهِ إنَّ هذا الكلامَ ما يقولُه أهلُ هذه البلاد! فقال له رسولُ الله : "ومن أهلِ أيِّ بلادٍ أنتَ يا عدَّاس وما دينُك قال: نَصْرَاني، وأنا رجلٌ من أهلِ نِينَوَى. فقال رسولُ الله : "من قريةِ الرجلِ الصالح يُونُس بن متَّى". فقال له عدَّاس: وما يُدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسولُ الله ذلك أخي، كان نبيًّا وأنا نبيّ. فأكبَّ عدَّاس على رسولِ الله يقبِّلُ رأسَه ويدَيْه وقدمَيْه (٣).

قال: يقولُ ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمَّا غلامك فقد أفسدَهُ عليك. فلما جاءهما عدَّاس قالا له: ويلك يا عدّاس، ما لك تقبِّلُ رأسَ هذا الرجل ويدَيْه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيءٌ خيرٌ من هذا، لقد أخبرني بأمرٍ ما يعلمه إلا نبيّ! قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفنَّك عن دينك، فإنَّ دينَكَ خيرٌ من دينه.

وقد ذكر موسى بن عُقبة نحوًا من هذا السياق، إلا أنه لم يذكرِ الدُّعاء، وزاد: وقعد له أهلُ الطائف صفَّين على طريقه، فلما مرّ جعلوا لا يرفعُ رجلَيْه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدْمَوْه، فخلص منهم وهما يسيلانِ بالدماء، فعمد إلى ظلِّ نخلةٍ وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله. ثم ذكر قصة عدَّاس النصراني كنحو ما تقدَّم.

وقد روى الإمام أحمد (٤) عن أبي بكر بن أبي شيبة، حدَّثنا مروان بن معاوية الفَزَاريّ، عن عبد الله


(١) معنى الوجه وإشراق الظلمات: أما الوجه إذا جاء ذكره في الكتاب والسنة فهو ينقسم في الذكر إلى موطنين: موطن تقرّب واسترضاء بعمل كقوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ وكقوله ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾، فالمطلوب في هذا الموطن: رضاه وقبوله للعمل، وإقباله على العبد العامل؛ وأصله أن من رضي عنك أقبل عليك، ومن غضب عليك أعرض عنك ولم يرك وجهه. والموطن الثاني: ما ظهر إلى القلوب والبصائر من أوصاف جلاله ومجده، والوجه لغة ما ظهر من الشيء معقولًا كان أو محسوسًا، تقول: هذا وجه المسألة، ووجه الحديث، أي الظاهر إلى رأيك منه. الروض (٢/ ١٧٨).
(٢) ذكر دعاء الطائف هذا الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٦/ ٣٥) وفيه تدليس ابن اسحاق. فالحديث ضعيف.
(٣) قال السهيلي في الروض (٢/ ١٧٩): وزاد التميمي فيها أنَّ عدَّاسًا حين سمعه يذكر يونس بن متَّى قال: والله لقد خرجت منها - يعني نينوى - وما فيها عشرة يعرفون ما متَّى، فمن أين عرفت أنت متَّى، وأنت أمي، وفي أمة أمِّيَّة؟.
(٤) في مسنده (٤/ ٣٣٥).