للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأتى جبريلُ رسولَ اللَّه فقال له: لا تبِتْ هذه الليلةَ على فراشكَ الذي كنتَ تَبيتُ عليه. قال: فلما كانت عَتَمةٌ من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسولُ اللَّه مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: "نمْ على فراشي وتَسَجَّ ببُرْدِي هذا الحَضْرَميِّ الأخضر، فنمْ فيه، فإنه لن يخلُصَ إليك شيءٌ تكرهه منهم" وكان رسولُ اللَّه ينامُ في بُرْده ذلك إذا نام.

وهذه القصة التي ذكرها ابنُ إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة وابن عباس وعليّ وسُراقة ابن مالك بن جُعْشُم وغيرهم دخل حديثُ بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدَّمَ (١).

قال ابن إسحاق (٢): فحدَّثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القُرَظي قال: لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال -وهم على بابه-: إنَّ محمدًا يزعم أنكم إنْ تابعتموه على أمره، كنتم ملوكَ العرب والعجم، ثم بُعثتم من بعد موتكم، فجُعلت لكم جنانٌ كجنانِ الأردُنّ، وإنْ لم تفعلوا كان فيكم ذَبْح، ثم بُعثتم بعد موتكم، ثم جُعلتْ لكم نارٌ تُحرَقون فيها.

قال: فخرج رسولُ اللَّه فأخذ حَفْنَةً من تراب في يده ثم قال: "نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم" وأخذ اللَّه على أبصارهم عنه فلا يرَوْنَه، فجعل ينثر ذلك الترابَ على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات ﴿يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس: ١ - ٩] ولم يبق منهم رجلٌ إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آتٍ ممن لم يكنْ معهم فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدًا، فقال: خيَّبَكم اللَّه، قد واللَّه خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلًا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، وانطلق لحاجته! أنهما ترَونَ ما بكم؟ قال: فوضع كلُّ رجلٍ منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلَّعون فيرَوْنَ عليًّا على الفراش متسجِّيًا بِبُردِ رسولِ اللَّه فيقولون: واللَّه إنَّ هذا لمحمدٌ نائمًا، عليه بُرْدُه، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام عليٌّ من الفراش فقالوا: واللَّه لقد كان صدقنا الذي كان حدَّثنا.

قال ابنُ إسحاق (٣): فكان مما أنزل اللَّه في ذلك اليوم وما كانو أجمعوا له قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠] وقولُه: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾ [الطور: ٣٠ - ٣١].

قال ابنُ إسحاق: فأذِنَ اللَّهُ لنبيه عند ذلك بالهجرة.


(١) رواية الواقدي هذه وأسانيده في طبقات ابن سعد (١/ ٢٢٧) وما بعدها.
(٢) في سيرة ابن هشام (١/ ٤٨٣) والروض (٢/ ٢٢٢).
(٣) في سيرة ابن هشام (١/ ٤٨٤) والروض (٢/ ٢٢٣).