للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كنا عند النجاشيِّ، فنكون تحت يد النَّجاشيِّ أحبُّ إلينا من أن نكون تحت يد محمدٍ، وإن تظهر قريش فنحن مَن قد عرفوا. قالوا: هذا الرأي. قال: قلت: فاجمعوا ما نهديه له. وكان أحبَّ ما يُهدى إليه من أرضنا الأَدَمُ، فجمعنا أَدَمًا كثيرًا، ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشيِّ، فوالله إنَّا لعنده إذ جاء عمرو بن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ، وكان رسولُ الله قد بعثه بكتابٍ كَتَبَهُ، يُزَوِّجُه أُمَّ حَبيبة بنت أبي سُفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أُمَيَّة، ولو قد دخلت على النجاشيِّ فسألته إيَّاه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سَرَرْتُ قريشًا، وكنت قد أجزأْتُ عنها حين قتلت رسول محمد. فدخلت على النجاشيِّ فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا بصديقي، أهديت لي من بلادك شيئًا؟ قال: قلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدمًا كثيرًا. ثُمَّ قدَّمته فاعجبه، وفرَّق منه شيئًا بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع، وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك، وهو رسول عدوٍّ لنا قد وترنا، وقتل أشرافنا وخيارنا، فأعطنيه فأقتله. فغضب من ذلك، ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنَّه كسره، فابتدر منخِراي، فجعلت أتلقَّى الدَّم بثيابي، فأصابني من الذُّلِّ ما لو انشقَّت بي الأرض دخلت فيها؛ فرَقًا منه. ثم قلت: أيها الملك، لو ظننت أنَك تكره ما قلت ما سألتك. قال: فاستحيا وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله؟ قال عمرو: فغيَّر الله قلبي عمَّا كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحقَّ العرب والعجم وتخالف أنت؟ ثم قلت: أتشهد أيُّها الملك بهذا؟ قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو، فاطعني واتَّبعه، فوالله إنَّه لعلى الحقِّ، وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطَست، فغسل عني الدم وكساني ثيابًا، وكانت ثيابي قد امتلأت بالدّم فألقيتها، ثم خرجت على أصحابي، فلمَّا رأوا كسوة النجاشيِّ سُرُّوا بذلك وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلِّمه في أول مرة، وقلت: أعود إليه. فقالوا: الرأي ما رأيت. قال: ففارقتهم وكأنِّي أعمد لحاجة، فعمدت إلى موضع السُّفن، فأجد سفينة قد شحنت تدفع. قال: فركبت معهم ودفعوها، حتى انتهوا إلى الشُعيبة، وخرجت من السفينة ومعي نفقة، فابتعت بعيرًا، وخرجت أريد المدينة، حتى مررت على مرِّ الظَّهران، ثم مضيت، حتى إذا كنت بالهدَة، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلًا، وأحدهما داخل في الخيمة، والآخر يمسك الرَّاحلتين. قال: فنظرت فإذا خالد بن الوليد. قال: قلت: أين تريد؟ قال: محمدًا؛ دخل الناس في الإسلام، فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأُخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضَّبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمدًا، وأردت الإسلام. فخرج عثمان بن طلحة فرحَّب بي، فنزلنا جميعًا في المنزل، ثم ترافقنا حتى أتينا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عنبة يصيح: يا رباح،