للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حَدْرَد الأَسْلَميِّ قال: كنت يومئذٍ في خيل خالد بن الوليد، فقال فتى من بني جَذيمة، وهو في سنِّي، وقد جُمِعَتْ يداه إلى عنقه برُمَّة، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى. فقلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرُّمَّة، فقائدي إلى هؤلاء النِّسوة حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردَّني بعد، فتصنعوا بي ما بدا لكم؟ قال: قلت: والله ليسيرٌ ما طلبت. فأخذت برُمَّته فقدته بها، حتى وقفته عليهن فقال: اسلَمي حُبَيش على نفد العيش (١): [من الطويل]

أَريتُكِ إذ طالبتُكم فَوَجَدْتُكُمْ … بحَلْيَةَ أو ألفيتكُم بالخوانِقِ

ألم يَكُ أهلًا أن يُنوَّل عاشقٌ … تكلَّف إدلاج السُّرى والودائقِ

فلا ذَنْبَ لي قَدْ قُلْتُ إذ أَهْلُنَا مَعًا … أثيبي بودٍّ قبل إحدى الصَّفائقِ

أثيبي بودٍّ قبل أن تشحط النَّوى … ويناى الأمير بالحَبيب المُفَارقِ

فإنِّيَ لا ضيَّعتُ سِرَّ أَمَانَةٍ … ولا رَاقَ عيني عنكِ بعدكِ رائقُ

سوى أنَّ ما نال العَشيرة شَاغلٌ … عن الودِّ إلا أن يكون التَّوامقُ (٢)

قالت: وأنت فحُييت عشرًا، وتسعًا وترًا، وثمانيًا تترى (٣).

قال: ثم انصرفت به، فضربت عنقه.

قال ابن إسحاق (٤): فحدَّثني أبو فراس بن أبي سُنبلة الأسلميُّ، عن أشاخ منهم، عمَّن كان حضرها منهم، قالوا: فقامت إليه حين ضُرِبَتْ عنفه فأكبَّت عليه، فما زالت تقبِّله حتى ماتت عنده.

وروى الحافظ البيهقيُّ (٥) من طريق الحُمَيديِّ، عن سفيان بن عُيينة، عن عبد الملك بن نوفل بن مُسَاحق، أنه سمع رجلًا من مزينة يقال له: ابن عِصَام، عن أبيه قال: كان رسول الله إذا بعث سرية قال: "إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتلوا أحدًا". قال: فبعثنا رسول الله في سرية وأمرنا بذلك، فخرجنا قِبَل تهامة، فأدركنا رجلًا يسوق بظعائن، فقلنا له: أسلم. فقال: وما الإسلام؟ فأخبرناه به، فإذا هو لا يعرفه، قال: أفرأيتم إن لم أفعل، ما أنتم صانعون؟ قال: قلنا: نقتلك. فقال: فهل أنتم منظريّ حتى أدرك الظَّعائن؟ قال: قلنا: نعم، ونحن مدركوك. قال: فأدرك الظَّعائن فقال: اسلمي حُبَيش قبل نفاد العيش. فقالت الأخرى: اسلم عشرًا، وتسعًا وترًا، وثمانيًا تترى. ثم


(١) الأبيات في "السيرة النبوية" لابن هشام (٢/ ٤٣٣) و "الروض الأُنف" (٧/ ١٣١) وقال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الآخرين منهما له.
(٢) "التوامق": الحب، وفي هذا البيت والذي قبله إقواء.
(٣) في رواية السُّهيلي في "الروض الأنف" بعض الخلاف عما هنا فراجعه.
(٤) انظر "السيرة النبوية" لابن هشام (٢/ ٤٣٤).
(٥) في "دلائل النبوة" (٥/ ١١٦).