للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سورة "براءةٌ" كما قد بَيَّنَّا ذلك مبسوطًا في "التفسير" (١) وأمر المؤمنين بالنَّفْر على كلِّ حالٍ. فقال تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ ثم الآيات بعدها [التوبة: ٤١ - ٤٢].

ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]. فقيل: إن هذه ناسخةٌ لتلك. وقيل: لا، فالله أعلم.

قال ابن إسحاق (٢): ثم أقام رسول الله بالمدينة ما بين ذي الحِجَّة إلى رجبٍ يعني من سنة تسع ثم أمر الناس بالتهيُّؤ لغزو الروم. فذكر الزهريُّ، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبى بكرٍ، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم من علمائنا، كلٌّ يحدِّث عن غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدِّث ما لم يحدِّث بعضٌ، أن رسول الله أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عُسْرةٍ من الناس وشدةٍ من الحرِّ وجدبٍ من البلاد، وحين طابت الثمار، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشُّخوص في الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله قلَّما يخرج في غزوة إلا كنَّى عنها إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيَّنها للناس، لبعد المشقة وشدة الزمان وكثرة العدوِّ الذي يصمد إليه ليتأهب الناس لذلك أُهبته، فأمرهم بالجهاد وأخبرهم أنه يريد الروم، فقال رسول الله ذات يومٍ وهو في جَهازه ذلك، للجدِّ بن قيسٍ أحد بني سِلمة: "يا جدُّ، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ " فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتنِّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجلٌ بأشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله وقال: "قد أذنت لك". ففي الجدِّ أنزل الله هذه الآية: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٤٩].

وقال قومٌ من المنافقين بعضهم لبعضٍ: لا تنفروا في الحرِّ، زهادةً في الجهاد وشكًّا في الحقِّ وإرجافًا بالرسول ، فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [التوبة: ٨١ - ٨٢].

قال ابن هشام (٣): حدثني الثقة، عمَّن حدَّثه، عن محمد بن طلحةَ بن عبد الرحمن، عن إسحاق بن


(١) انظر "تفسير القرآن العظيم" للمؤلف (٤/ ٩٤).
(٢) انظر "السيرة النبوية" لابن إسحاق (٢/ ٥١٥).
(٣) انظر "السيرة النبوية" (٢/ ٥١٧).