للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أجمالًا ذُللًا سِمانًا، فاحْتَبِسْها قريبًا مني، فإذا سمعتَ بجيشٍ لمحمدٍ قد وَطِئَ هذه البلاد، فآذِنّي، ففعل، ثم إنه أتاني ذاتَ غداةٍ فقال: يا عديُّ، ما كنتَ صانعًا إذا غَشِيثْكَ خَيْلُ محمد، فاصنعَهْ الآن، فإني قد رأيتُ راياتٍ، فسألتُ عنها فقالوا: هذه جيوشُ محمد. قال: قلت: فقرِّب إليَّ أجمالي، فقرَّبها، فاحتملتُ بأهلي وولدي، ثم قلتُ: ألحقُ بأهلِ ديني من النصارى بالشام، فسلكتُ الجُوْشيَّة (١)، وخلَّفتُ بنتًا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشامَ أقمتُ بها، وتُخَالفُني خيلُ رسولِ الله ، فتُصيبُ ابنةَ حاتمٍ فيما أصابت، فقُدِم بها على رسول الله في سبايا من طَيِّئٍ، وقد بلغ رسولَ الله هَرَبي إلى الشام. قال: فجُعلَتِ ابنةُ حاتمٍ في حَظِيرةٍ ببابِ المَسْجِدِ كانَتِ السّبايا تُحْبسُ بها، فمرَّ بها رسولُ الله فقامت إليه، وكانت امرأةً جَزْلةً، فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ، هَلَكَ الوالدُ، وغابَ الوافِدُ، فامْنُنْ عليَّ، منَّ اللهُ عليكَ، قال: "ومَنْ وافِدُك"؟ قالت: عديُّ بن حاتم. قال: "الفارُّ من الله ورسوله؟ " قالَتْ: ثمَّ مَضَىَ وتَرَكَني، حتَّى إذا كانَ الغَدُ مرَّ بي، فقلتُ له مثلَ ذلك، وقال لي مثلَ ما قالَ بالأمسِ، قالت: حتَّى إذا كانَ بعدَ الغدِ مرَّ بي، وقد يئستُ، فأشار إليّ رجلٌ خلفَهُ أنْ قومي فَكَلِّميه، قالت: فقُمْتُ إليه، فقلتُ: يا رسولَ الله، هَلَكَ الوالدُ، وغابَ الوافدُ، فامنُنْ عَلَيَّ منَّ اللهُ عليكَ. فقال : "فد فَعَلْتُ، فلا تَعْجَلي بخروجٍ حتى تجدي من قومك مَن يكونُ لك ثقةً، حتى يُبلِّغَكَ إلى بلادِك، ثم آذنيني." فسألتُ عن الرجلِ الذي أشار إليَّ أن كَلِّميه، فقيل لي: علي بن أبي طالب، قالت: فَأَقَمْتُ حتى قَدِمَ ركبٌ من بَلِيّ أو قُضاعةَ، وإنما أُريد أن آتيَ أخي بالشام، فجئتُ فقلتُ: يا رسولَ الله، قد قدم رَهْطٌ من قومي، لي فيهم ثقةٌ وبلاغٌ، قالت: فكساني وحَمَلني وأعطاني نفقةً، فخرجتُ معهم، حتّى قَدِمْتُ الشامَ. قال عديٌّ: فوالله إنّي لقاعدٌ في أهلي، فنظرت إلى ظَعينة تُصوِّبُ إلى قومِنا، قال: فقلت: ابنةُ حاتم! قال: فإذا هي هي، فلما وقفتْ عليَّ استحلّت (٢) تقول: القاطعُ الظالمُ، احتملتَ بأهلكَ وولدكَ، وتركتَ بقيةَ والدك عورتَك؟ قال: قلت: أيْ أُخيَّة، لا تقولي إلا خيرًا، فوالله ما لي من عذرٍ، لقد صنعتُ ما ذكرتِ. قال: ثم نزلتْ فأقامت عندي، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحقَ به سريعًا، فإن يكن الرجلُ نبيًا فللسابق إليه فضلُه، وإن يكنْ مَلِكًا فلن تَذِلَّ في عزِّ اليمن وأنت أنت. قال: قلت: والله إن هذا للرأي. قال: فخرجتُ حتى أقدَمَ على رسول الله المدينةَ، فدخلتُ عله وهو في مسجده، فسلمتُ عليه، فقال: "مَن الرجلُ؟ " فقلت: عديٌّ بن حاتم، فقامَ رسولُ الله ، وانطلقَ بي إلى بيته، فواللهِ إنه لعامدٌ بي إليه، إذ لقيتْهُ امرأةٌ ضعيفةٌ كبيرةٌ فاستوقفْته، فوقفَ لها طويلًا تُكَلِّمُه في حاجتها، قال: قلتُ


(١) الجوشية: موضع بين نجد والشام، عليها سلك عدي بن حاتم حين قصد الشام هاربًا من خيل رسول الله لما وطئت بلاد طيئ (معجم البلدان).
(٢) في سيرة ابن هشام: "انسحلت" أي لامت وسخطت.