للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذه خارقة، والخارقُ لا فرقَ بين قليله وكثيره، فإن من سلكَ على وجه الماء الخِضَم الجاري العجاج فلم تبتلَّ منه نعالُ خيولهم، أو لم يَصلْ إلى بُطونها، فلا فرقَ في الخارق بين أنْ يكونَ قامة أو ألف قامة، أو أن يكون نهرًا أو بحرًا، بل كونه نهرًا عجاجًا كالبرق الخاطف والسَّيْل الجاري، أعظمُ وأغربُ، وكذلك بالنسبة إلى فلق (١) البحر، وهو جانب بحر القلزم، حتى صار كل فِرْقٍ كالطود العظيم، أي: الجبل الكبير، فانحاز الماء يمينًا وشمالًا، حتى بدت أرض البحر، وأرسلَ الله عليها الريحَ حتى أيبسَها، ومشت الخيولُ عليها بلا انزعاج حتى جاوزوا عن آخرهم، وأقبلَ فرعون بجنوده: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: ٧٨ - ٧٩] وذلك أنهم لما توسَّطوه وهمَّ أولهم بالخروج منه، أمر الله البحر فارتطمَ عليهم فَغرِقُوا عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحدٌ، كما لم يفقد من بني إسرائيل واحدٌ، ففي ذلك آية عظيمة بل آيات معدودات، كما بسطنا ذلك في "التفسير" (٢) وللّه الحمد والمنة. والمقصود أنَّ ما ذكرناه من قصة العلاء بن الحضرمي، وأبي عُبيد (٣) الثقفي، وأبي مسلم الخَولاني، من مسيرهم على تيَّار الماء الجاري، فلم يُفقد منهم أحد، ولم يفقدوا شيئًا من أمتعتهم، هذا وهم أولياء، منهم صحابيُّ وتابعيان، فما الظن لو احتيجَ إلى ذلك بحضرة النبيّ ، سيّد الأنبياء وخاتمهم، وأعلاهم منزلة ليلة الإسراء، وإمامهم [ليلتئذ] ببيت المقدس، والذي هو محل ولايتهم، ودار بدايتهم، وخطيبهم يوم القيامة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وأول شافع في المحشر، وفي الخروج من النار، وفي دخول الجنة، وفي رفع الدرجات بها، كما بسطنا أقسام الشفاعة وأنواعها، في آخر الكتاب في أحوال يوم القيامة، وبالله المستعان.

وسنذكر في المعجزات الموسوية ما وردَ من المعجزات المحمَّدية، ما هو أظهر وأبهر منها، ونحنُ الآن فيما يتعلَّق بمعجزات نوح ، ولم يذكر شيخنا سوى ما تقدَّم، وأما الحافظ أبو نُعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، فإنه قال في آخر كتابه في "دلائل النبوة"، وهو في مجلدات ثلاث: الفصل الثالث والثلاثون: في ذكر موازنة الأنبياء في فضائلهم، بفضائل نبيِّنا، ومقابلة ما أُوتوا من الآيات بما أُوتي، إذ أُوتي ما أوتوا وشبهَه ونظيرَه، فكان أوَّل الرسل نوح ، وآيتُه التي أُوتي شفاء غيظه، وإجابة دعوته، في تعجيل نقمة الله لمُكذبيه حتى هلك من على بسيط الأرض من صامت وناطق، إلا من آمن به ودخل معه في سفينته. ولعَمْري إنَّها آية جليلة، وافقت سابقَ قَدَر الله وما قد علمه في هلاكهم، وكذلك نبينا لما كذبه قومُه وبالغوا في أذيَّتِه، والاستهانة بمنزلته من الله عر وجل، حتى ألقى السفيهُ عقبةُ بن أبي مُعيط سَلا الجزور على ظهره وهو ساجد، فقال: "اللهم عليكَ بالملأ من


(١) في نسخة: بالتشبيه إلى فرق.
(٢) انظر تفسير ابن كثير (٣/ ٢٠٣).
(٣) بل هو حُجْرُ بن عدي كما سبق.