للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نزلت أم لا؟! على قولين، والمشهور عن الجمهور أنها نزلت، واختلفوا فيما كان عليها من الطعام على أقوال. وذكرَ أهل التاريخ أنَّ موسى بن نصير، الذي فتحَ البلاد المغربية أيام بني أمية وجدَ المائدة، ولكن قيل: إنها مائدة سليمان بن داود مرصَّعة بالجواهر، وهي من ذهب، فأرسل بها إلى الوليد بن عبد الملك، فكانت عنده حتى مات، فتسلَّمها أخوه سليمان، وقيل: إنها مائدة عيسى، لكن يبعد هذا أن النصارى لا يعرفون أمر المائدة كما قاله غير واحد من العلماء (١)، والله أعلم.

والمقصود أن المائدة سواء كانت قد نزلت أم لم تنزل، فقد كانت موائدُ رسول الله تُمدُّ من السماء، وكانوا يسمعون تسبيحَ الطعام وهو يُؤكل بين يديه، وكم قد أشبعَ من طعام يسير ألوفًا ومئات وعشرات بعد عشرات، صلوات الله وسلامه عليه ما تعاقبت الأوقات، وما دامت الأرض والسموات.

وهذا أبو مسلم الخولاني، قد ذكرَ الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخه أمرًا عجيبًا وشأنًا غريبًا، حيث روى من طريق إسحاق بن يحيى الملطي، عن الأوزاعي، قال: أتى أبا مسلم الخولاني نفرٌ من قومه فقالوا: يا أبا مسلم! أما تشتاقُ إلى الحج؟ قال: بلى لو أصبتُ لي أصحابًا، فقالوا: نحن أصحابُك، قال: لستم لي بأصحاب، إنما أصحابي قوم لا يُريدون الزاد ولا المزاد، فقالوا: سبحان الله! وكيف يسافر قوم بلا زاد ولا مزاد؟ قال لهم: ألا ترون إلى الطير تغدو وتروح بلا زاد ولا مزاد، والله يرزقها؟ وهي لا تبيع ولا تشتري، ولا تحرث ولا تزرع والله يرزقها؟ قال: فقالوا: فإنا نسافر معك، قال: تهيؤوا على بركة الله تعالى، قال: فغَدوا من غوطة دمشق ليس معهم زاد ولا مزاد، فلما انتهوا إلى المنزل قالوا: يا أبا مسلم! طعام لنا وعلف لدوابنا، قال: فقال لهم: نعم، فتنحَّى غير بعيد فتسنَّم مسجدَ أحجار، فصلَّى فيه ركعتين، ثم جثا على ركبتيه فقال: إلهي قد تعلمُ ما أخرجني من منزلي، وإنما خرجتُ آمرًا لك، وقد رأيتُ البخيل من ولد آدم تنزل به العِصابة من الناس فيُوسعهم قِرىً، وإنا أضيافُك وزوَّارك، فأطعمنا، واسقنا، واعلف دوابَّنا، قال: فأتي بسفرة فمدَّت بين أيديهم، وجيء بجفنة من ثريد يبخرُ، وجيء بقلَّتين من ماء، وجيء بالعلف لا يدرون من يأتي به، فلم تزل تلك حالهم منذ خرجوا من عند أهاليهم حتى رجعوا، لا يتكلَّفون زادًا ولا مزادًا (٢). فهذه حال وليٍّ من هذه الأمة، نزل عليه وعلى أصحابه مائدة كل يوم مرتين مع ما يُضاف إليها من الماء والعلوفة لدواب أصحابه، وهذا اعتناء عظيم، وإنما نال ذلك كلَّه ببركة متابعته لهذا النبيِّ الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

وأما قوله تعالى عن عيسى ابن مريم : إنه قال لبني إسرائيل: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ الآية [آل عمران: ٤٩] فهذا شيء (٣) يسير على الأنبياء، بل وعلى كثير من


(١) المصدر السابق (٢/ ١٥٥).
(٢) أخرجه الحافظ ابن عساكر في دمشق، وذكره ابن منظور في التهذيب (١٢/ ٦١).
(٣) في نسخة "سهل يسير".