للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المدينة فنزل على ماءٍ يقال له صِرار (١)، فعسكر به عازمًا على غزو العراق بنفسه، واستخلفَ على المدينة عليَّ بن أبي طالب، واستصحب معه عثمان بن عفان وساداتِ الصحابة. ثم عقدَ مجلسًا لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه، ونودي أنّ الصلاةَ جامعةٌ، وقد أرسل إلى علي (٢) فقدم من المدينة، ثم استشارهم فكلهم وافقه (٣) على (الذَّهاب إلى) العراق، إلا عبد الرحمن بن عوف فإنَّه قالَ له: إنِّي أخشى إن كسرتَ أن يضعفَ المسلمون في سائر أقطار الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلًا وترجع أنت إلى المدينة. فأرثا (٤) عمر والناس عند ذلك واستصوبوا رأيَ ابن عوف. فقال عمر: فمن ترى أن نبعثَ إلى العراق؟ فقال: قد وجدتُه. قال: ومن هو؟ قال الأسد (في براثنه) (٥) سعد بن مالك الزهري.

فاستجادَ قوله وأرسلَ إلى سعدٍ، فأمَّره على العراق وأوصاه، فقال:

"يا سعد بن وهيب لا يغرنَّك من الله أن قيل: خالُ رسول الله وصاحبُه، فإنَّ اللهَ لا يمحو السيِّءَ بالسيِّءَ، ولكن يمحو السيِّءَ بالحسنِ، وإن الله ليس بينه وبين أحدٍ نسبٌ إلا بطاعته، فالناس شريفُهم ووضيعُهم في ذات اللهِ سواء، الله ربهم وهم عبادُه، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمرَ الذي رأيتَ رسولَ الله منذ بُعِثَ إلى أن فارقنا عليه فالزمْهُ، فإنَّه الأمرُ. هذه عِظتي إيّاك، إن تركتَها ورغبتَ عنها حَبِطَ (٦) عملُك وكنتَ من الخاسرين".

ولما أراد فراقَه قالَ له: "إنَّكَ سَتَقْدِمُ على أمرٍ شديدٍ، فالصبرَ الصبرَ على ما أصابَكَ ونابكَ، تجتمع (٧) لك خشية الله، وأعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين، في طاعته واجتناب معصيته، وإنَّما أطاعه من أطاعه ببغضِ (٨) الدنيا وحبِّ الآخرة، وإنما عصيان من عصاه بحبِّ الدنيا وبغض الآخرة. وللقلوب حقائقُ يُنْشئها الله إنشاءً، منها السرُّ، ومنها العلانية، فأما العلانيةُ فأن يكون (٩) حامدهُ وذامُّه في الحقِّ سواء، وأمّا السرُّ فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس، ومن محبة الناس فلا


(١) في أ: ضرار، وما هنا عن تاريخ الطبري. وصرار - بكسر أوله وبالراء المهملة أيضًا في آخره - موضع على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق. معجم البلدان (٣/ ٣٩٨).
(٢) في أ: عدي؛ تحريف، وما هنا موافق لتاريخ الطبري (٣/ ٤٨٠ - ٤٨١).
(٣) في ط: وافقوه.
(٤) كذا في أ، ط ولعلها: فأرفأ بمعنى سكن واطمأن. اللسان (رفأ ورمأ).
(٥) برائن الأسد جمع بُرْثُن: وهو مِخْلبه، وقيل: هو للسبع كالإصبع للإنسان. وقيل: البرثن: الكف بكمالها مع الأصابع. اللسان (برثن).
(٦) حبط: بطل ثواب عمله. اللسان (حبط).
(٧) في أ، ط: تجمع؛ وما هنا عن الطبري.
(٨) في ط: ببعض؛ وهو عكس المعنى المقصود.
(٩) في ط: تكون؛ تحريف.