للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

طافتْ به أربعين يومًا أو نحو ذلك، ولكن كلُّ هذه الأخبار عن بني إسرائيل. وقد قرَّرنا أنها لا تصدَّقُ ولا تكذبُ، فلا يُحتجُّ بها، فأما إن ردَّها الحقُّ فهي مردودة.

وقد قال اللّه: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٦] أي: أوّل بيت وُضعَ لعموم النَّاس للبركة والهدى البيت الذي ببكة. قيل: مكة، وقيل: محل الكعبة: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ [آل عمران: ٩٧] أي: على أنه بناء الخليل والد الأنبياء من بعده، وإمام الحنفاء من ولده الذين يقتدونَ به ويتمسَّكون بسنَّته، ولهذا قال: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] أي: الحجَر الذي كان يقف عليه قائمًا، لما ارتفعَ البناءُ عن قامَته، فوضعَ له ولدُه هذا الحجرَ المشهورَ ليرتفعَ عليه لمَّا تعالى البناءُ، وعَظُمَ الفناء، كما تقدَّم في حديث ابن عباس الطويل.

وقد كان الحجَر مُلصقًا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيَّام عُمرَ بن الخطاب ، فأخّره عن البيت قائلًا: لئلا يَشغل المصلين عندَه الطائفين بالبيت، واتُّبعَ عمرُ بن الخطاب في هذا، فإنه قد وافقه ربُّه في أشياءَ، منها: في قوله لرسوله لو اتَّخَذنا مِن مقام إبراهيمَ مُصلَّى، فأنزل اللّه: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ (١) [البقرة: ١٢٥].

وقد كانتْ آثارُ قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أوَّل الإسلام، وقد قال أبو طالب في قصيدته (٢) اللاميَّة المشهورة: [من الطويل]

وثورٍ ومَنْ أرسى ثَبِيْرًا مكانَه … وراقٍ لِيَرْقى في حِرَاءَ ونازِلِ (٣)

وبالبيتِ، حق البيت، من بطنِ مكَّةٍ … وباللّهِ إنّ اللّهَ ليس بغَافِلِ

وبالحَجر المُسْوَدِّ إذ يَمْسَحُونه … إذا اكتنفُوه بالضُّحى والأصائلِ (٤)

ومَوْطئ إبراهيمَ في الصّخرِ رَطْبةٌ … على قَدَمَيْهِ حَافيًا غيرَ ناعِل

يعني أنَّ رجلَه الكريمة غاصتْ في الصخرة، فصارتْ على قَدْر قَدَمه حافيةً لا مُنتعلة، ولهذا قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة: ١٢٧] أي: في حال قولهم ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٧] فهما في غاية الإخلاص والطاعة للّه ﷿، وهما يسألان من اللّه السميع العليم أن يتقبَّلَ منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٨].


(١) أخرجه البخاري (٣١٨٩) في الجزية والموادعة، ومسلم (١٣٥٣) في الحج، عن عمر بن الخطَّاب .
(٢) انظر القصيدة في السيرة النبوية، لابن هشام (١/ ٢٧٢ - ٢٨٠).
(٣) ثور وثبير وحِراء: جبال بمكة.
(٤) "اكتنفوه": أحاطوا به.