للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد ثبت عنه في صحيح مسلم، كما سنُورده أنه قال: "سأقومُ مقامًا يرغبُ إليَّ الخَلْقُ كلُّهم حتى إبراهيم" (١) فمدحَ إبراهيمَ أباه مِدْحةً عظيمةً في هذا السياق، ودل كلامه على أنه أفضلُ الخلائق بعده على الإطلاق، في هذه الحياة الدنيا ويومَ يُكشفُ عن سَاق.

وقال البخاري (٢): حَدَّثَنَا عثمان بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا جريرٌ، عن منصور، عن المِنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عبَّاس، قال: كان رسولُ الله يُعوِّذُ الحَسَنَ والحُسَيْن ويقول: "إنَّ أباكما كان يُعوِّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ: أعوذُ بكلماتِ اللّه التَّامة، من كُلِّ شَيْطانٍ وهامَّة، ومنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّة".

ورواه أهل السنن (٣): من حديث منصور به.

وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٦٠].

ذكر المفسرون لهذا السؤال أسبابًا بسطناها في التفسير (٤) وقرَّرناها بأتمِّ تقرير، والحاصلُ: أنَّ اللّه ﷿ أجابَه إلى ما سألَ، فأمرَه أن يعمد إلى أربعةٍ من الطيور، واختلفوا في تعيينها (٥) على أقوال، والمقصود حاصل على كلِّ تقدير، فأمره أن يُمرقَ لحومَهنَّ وريشهنَّ، ويخلط ذلك بعضه في بعض، ثم يقسمه قسمًا، ويجعل على كلِّ جبل منهنَّ جزءًا، ففعل ما أُمِرَ به، ثم أُمِرَ أن يدعوهنَّ بإذن ربهن، فلما دعاهنَّ، جعلَ كلُّ عضو يطيرُ إلى صاحبه، وكلُّ ريشة تأتي إلى أختها، حتى اجتمعَ بدن كل طائر على ما كان عليه، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقولُ للشيء: كن فيكون. وأتينَ إليه سعيًا، ليكونَ أبينَ له وأوضحَ لمشاهدته يأتين طيرانًا.

ويقال: إنه أُمر أن يأخذَ رؤوسهنَّ في يده، فجعلَ كلُّ طائر يأتي فيُلقي رأسَه، فيتركَّبُ على جثَّته كما كان، فلا إله إلا اللّه.

وقد كان إبراهيمُ يعلمُ قدرة اللّه تعالى على إحياء الموتى علمًا يقينيًا، لا يحتمل النقيضَ، ولكنْ أحبَّ أنْ يُشاهدَ ذلك عيانًا، ويترقَّى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه اللّه إلى سؤاله، وأعطاه غاية مأموله.


(١) أخرجه مسلم في صحيحه (٨٢٠) في صلاة المسافرين.
(٢) في صحيحه (٣٣٧١) في الأنبياء.
(٣) أخرجه أبو داود (٤٧٧٣) في السنة، والترمذي (٢٠٦٠) في الطب، والنسائي (١٠٠٦) في عمل اليوم والليلة، وابن ماجة (٣٥٢٥) في الطب. والهامة: واحدة الهوام ذوات السموم، "واللَّامَّة": الداء والآفة.
(٤) انظر تفسير ابن كثير (١/ ٣٩٠ - ٣٩١).
(٥) في المطبوع: تعيُّنها.