وقولهم: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: ٩١] وهذا من كُفْرهم البليغ وعنادهم الشنيع، حيث قالوا: ﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ أي: ما نفهمه ولا نتعقَّله، لأنا لا نُحبُّه ولا نُريده، وليس لنا همَّةٌ إليه، ولا إقبال عليه، وهو كما قال كفَّارُ قريش لرسول اللّه ﷺ: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ [فصلت: ٥] وقولهم: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا﴾ [هود: ٩١] أي: مُضْطهدًا مهجورًا ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ﴾ أي: قبيلتُك وعشيرتُك فينا ﴿لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ [هود: ٩١، ٩٢] أي: تخافونَ قبيلتي وعشيرتي، وتراعوني بسببهم ولا تخافونَ جَنَبة (١) اللّه، ولا تراعوني لأني رسول اللّه، فصارَ رهطي أعزّ عليكم من اللّه: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾ [هود: ٩٢] أي: جعلتم جانب اللّه وراءَ ظهوركم ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [هود: ٩٢] أي: هو عليمٌ بما تعملونَه وما تصنعونه، محيطٌ بذلك كله، وسيجزيكم عليه يوم تُرجعون إليه ﴿وَيَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: ٩٣] وهذا أمر تهديد شديد ووعيدٍ أكيد، بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجِهم وشاكلتِهم، فسوفَ تعلمونَ من تكونُ له عاقبةُ الدار، ومن يحلّ عليه الهلاك والبَوَار ﴿مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي: في هذه الحياة الدنيا ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ أي: في الأخرى ﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ أي: مني ومنكم فيما أخبر وبشَّر وحذَّر ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: ٩٣] وهذا كقوله: ﴿وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ [الأعراف: ٨٧].
﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: ٨٨، ٨٩]. طلبوا بزعمهم أن يردُّوا من آمن منهم إلى ملَّتهم، فانتصب شعيب للمحاجَّة عن قومه فقال: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ﴾ أي: هؤلاء لا يعودونَ إليكم اختيارًا وإنما يعودونَ إليه إن عادُوا اضْطرارًا مُكرمينَ، وذلك لأن الإيمان إذا خالطتْه بشاشةُ القلوبِ لا يسخطُه أحدٌ، ولا يرتدُّ أحدٌ عنه، ولا محيدَ لأحد منه. ولهذا قال: ﴿قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ [الأعراف: ٨٩] أي: فهو كافينا وهو العاصمُ لنا وإليه مَلْجَؤُنا في جميع أمرنا.
ثم استفتحَ على قومِه واستنصرَ ربَّه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم، فقال: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ [الأعراف: ٨٩] أي: الحاكمين. فدعا عليهم، واللّه لا يردُّ دعاء رسلِه
(١) جَنبة: جانب الشيء وناحيته. وفي المطبوع: جَنْب.