للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال: ألا وإنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أتت (١) مقبلة، ولكل واحدة بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألا وإن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطًا، والتراب فراشًا، والماء طيبًا، ألا من اشتاق إلى الآخرة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن طلب الجنة سارع إلى الطاعات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات (٢)، ألا وإن لله عبادًا كم رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين (٣)، وأهل النار في النّار معذَّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أيامًا قليلة لعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافُّون أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم (٤). وأما النهار فظماء حكماء بررة أتقياء، كأنَّهم القداح ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض، وخولطوا ولقد خالط القوم أمر عظيم.

وعن الأصبغ بن نباتة قال: صعد علي ذات يوم المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر الموت فقال: عبد الله الموت ليس منه فوت، إن أقمتم له أخذكم، وإن فررتم منه أدرككم، فالنجا النجا، والوحا الوحا (٥)، إن وراءكم طالب حثيث، القبر، فاحذروا ضغطته وظلمته ووحشته (٦)، ألا وإن القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات فيقول: أنا بيت الظلمة، أنا بيت الدود، أنا بيت الوحشة، ألا وإن وراء ذلك يوم يشيب فيه الصغير ويسكر فيه الكبير، ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢] ألا وإن وراء ذلك ما هو أشد منه، نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليها ومقامعها حديد، وماؤها صديد، وخازنها مالك ليس لله فيها رحمة. قال: ثم بكى وبكى المسلمون حوله، ثم قال: ألا وإن وراء ذلك جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، جعلنا الله وإياكم من المتقين، وأجارنا وإياكم من العذاب الأليم.

ورواه ليث بن أبي سليم: عن مجاهد، حدَّثني منْ سمع عليًا فذكر نحوه.

وقال وكيع: عن عمر بن منبه، عن أوفى بن دلهم، قال: خطب علي فقال: أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدًا السباق، ألا وإنكم في أيام [أمل] من ورائه أجل، فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خاب عمله (٧)، ألا


(١) في أ: أقبلت.
(٢) في ط: المصائب، وما أثبتناه يوافق السجعة.
(٣) في أ: عبادًا لم رأى أهل الجنة في الجنة خالدين منعمين.
(٤) في أ: فكاك رقابهم ربنا ربنا يطلبون منه.
(٥) الوحا الوحا: أي: السرعة السرعة ويمد ويقصر، وهو منصوب على الإغراء بفعل مضمر. النهاية (٥/ ١٦٣).
(٦) في ط: "ضغطته ووحشته"، وما هنا من أ، وهو الصواب.
(٧) في أ: عمله فأجله.