للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عند عُبيد اللَّه، فأجاره وآواه إلى داره. وجاء الجارود مسلِّمًا على عبيد اللَّه، وبعث عبيد اللَّه الشُّرَط إلى دار المنذر، فجاؤوا بابن مفرِّغ فأُوقف بين يديه، فقال المنذر: إني قد أجرتُه، فقال: يمدحك ويمدح أباك فترضى عنه، ويهجوني ويهجو أبي ثم تُجيره عليّ؟! ثم أمر عبيد اللَّه بابن مفزغ فسُقي دواءً مُسْهلًا، وحملوه على حمار عليه إكاف وجعلوا يطوفون به في الأسواق وهو يَسْلَح والناس ينظرون إليه، ثم أمر به فنُفي إلى سِجسْتان إلى عند أخيه عبّاد، فقال ابن مفرِّغ لعبيد اللَّه بن زياد:

يَغْسِلُ الماءُ ما صَنَعْتَ وقَوْلي … راسخٌ منكَ في العِظامِ البَوَالي

فلما أَمر عبيد اللَّه بنفي ابن مفرِّغ إلى سِجسْتان كلَّم اليمانيّون معاوية في أمر ابن مفرِّغ: أنَّه إنَّما بعثه إلى أخيه ليقتلَه، فبعث معاوية إلى ابن مفرِّغ وأحضره، فلمَّا وقف بين يديه بكى وشكا إلى معاوية ما فعل به ابن زياد، فقال له معاوية: إنك هجوتَه، ألستَ القائل كذا؟ ألستَ القائل كذا؟ فأنكر أن يكون قال من ذلك شيئًا، وذكر أن القائل ذلك هو عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان وأحبَّ أن يُسْندها إليّ، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم ومنَعَه العطاء حتى يرضى عنه عبيد اللَّه بن زياد. وأنشد ابنُ مفرِّغ ما قاله في الطريق في معاوية يخاطب راحلته:

عَدَسْ ما لعبّاد عليكِ إمارةٌ … نَجَوْتِ وهذا تحملِينَ طَلِيقٌ (١)

لَعَمْري لقَدْ نجّاكِ من هُوَّةِ الرَّدى … إمامٌ وحَبْلٌ للأنام وَثِيقُ

سأشكُرُ ما أَوْليتَ من حُسْنِ نِعمةٍ … ومثلي بشُكْرِ المُنْعِمِينَ حَقِيقُ

فقال له معاوية: أما لو كنّا نحن الذين هَجَوْتنا لم يكن من أذانا شيء يصل إليك ولم نتعرض لذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! إنه ارتكب فيَّ ما لم يرتكب مسلمٌ من مسلمٍ على غير حَدَثٍ ولا جُرْم، قال: ألستَ القائل كذا؟ ألستَ القائل كذا؟ فقد عفونا عن جُرْمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء، فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدًا إلّا بالحُسْنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحبّ إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فاختار المَوْصل، فأرسله إليها، ثم استأذن عبيد اللَّه في القدوم إلى البصرة والمقام بها، فاذن له. ثم إن عبد الرحمن ركب إلى عُبيد اللَّه فاسترضاه، فرضي عنه، وأنشده عبد الرحمن:

لأَنتَ زيادةٌ في آلِ حَرْبٍ … أحبُّ إليَّ من إحدَى بَناني

أراكَ أخأ وعمّا وابنَ عمٍّ … فلا أَدرِي بغَيْبٍ ما تَراني


(١) "عدس": اسم البغلة، أو: كلمة زجر للبغال. والبيت شاهد مشهور في النحو على أن هذا بمعنى الذي. مغني اللبيب (ص ٥١٤) وخزانة الأدب (٢/ ٥١٤).