للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ يعني: ما كانوا يعصرونَه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسُّمْسُم وغيرها، فعبَّرَ لهم، وعلى الخير دلَّهم وأرشدَهم إلى ما يعتمدونه في حالتيْ خِصْبهم وجَدْبهم، وما يفعلونه من ادِّخار حبوبِ سنيِّ الخِصْب في السبع الأول في سنبله، إلا ما يُرصدُ بسبب الأكلِ، ومن تقليل البذر في سنيِّ الجَدْب في السبع الثانية، إذ الغالبُ على الظَّنِّ أنه لا يردُّ البذر من الحقل، وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: ٥٠ - ٥٣]. لما أحاطَ الملكَ علمًا بكمال علم يُوسف ، وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه، أمرَ بإحضاره إلى حضرتِه، ليكونَ من جملة خاصَّتِه. فلما جاءه الرسولُ بذلك أحبَّ ألا يخرجَ حتى يتبينَ لكلِّ أحد أنه حُبسَ ظلمًا وعدوانًا، وأنه بريءُ السَّاحة مما نسبوه إليه بهتانًا ﴿قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ﴾ يعني: الملك ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ قيل: معناه إنَّ سيدي العزيز يعلمُ براءتي مما نُسبَ إليَّ. أي: فمر الملكَ فليسألهنَّ: كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهنَّ إيايَ وحثِّهنَّ لي على الأمر الذي ليس برشيدٍ ولا سديدٍ؟ فلما سُئلنَ عن ذلك اعترفنَ بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ فعند ذلك ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ وهي "زليخا" ﴿الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾ أي: ظهرَ وتبيَّنَ ووضحَ، والحقُّ أحقُّ أنْ يُتَّبعَ ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ أي: فيما يقوله من أنه بريء، وأنه لم يُراودني، وأنه حُبِسَ ظلمًا وعدوانًا وزورًا وبهتانًا، وقوله ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ قيل: إنه من كلام يوسفَ، أي: إنما طلبتُ تحقيق هذا، ليعلمَ العزيزُ أني لم أخنْهُ بظهر الغيب. وقيل: إنه من تمام كلام "زليخا" أي: إنما اعترفتُ بهذا ليعلمَ زوجي أني لم أخنْه في نفسِ الأمر، وإنما كان مُراودةً لم يقع معها فعل فاحشةٍ، وهذا القولُ هو الذي نصرَه طائفةٌ كثيرةٌ من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحكِ ابنُ جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.

﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قيل: إنه من كلام يوسف، وقيل: من كلام "زليخا" وهو مُفرَّع على القوليْن الأوَّلين، وكونُه من تمام كلام "زليخا" أظهرُ وأنسبُ وأقوى، واللّه أعلم.

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يوسف: ٥٤ - ٥٧]. لما ظهرَ للملك براءةُ عِرْضِه