للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال الزهري: حدّثني القاسم بن محمد: أن معاوية حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة فكلَّمها خاليَيْن لم يشهد كلامهما أحد إلّا ذكوان أبو عمرو مولى عائشة، فقالت: أمنتَ أن أخبَأ لك رجلًا يقتلك بقتلك أخي محمدًا؟ فقال: صدقت، فلمّا قضى معاوية كلامه معها تشهَّدت عائشة ثم ذكرت ما بعث اللَّه به نبيَّه من الهدى ودين الحق، والذي سنَّ الخلفاءُ بعده، وحضَّتْ معاوية على العدل واتباع أثرهم، فقالت في ذلك فلم تترك له عذرًا. فلمّا قضت مقالتها قال لها معاوية: أنت -واللَّه- العالمةُ العاملة بأمر رسول اللَّه الناصحة المشفقة البليغة الموعظة، حضضتِ على الخير، وأمرتِ به، ولم تأمرينا إلّا بالذي هو لنا مصلحة، وأنتِ أهل أن تُطاعي. وتكلمتْ هي ومعاوية كلامًا كثيرًا. فلمّا قام معاوية اتَّكأ على ذكوان وقال: واللَّه ما سمعتُ خطيبًا -ليس رسول اللَّه أبلغَ من عائشة (١).

وقال محمد بن سعد: حدَّثنا خالد بن مَخْلد البجلي، حدَّثنا سليمان بن بلال، حدّثني علقمة بن أبي علقمة، عن أمِّه قالت: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة، فأرسل إلى عائشة: أن أرسلي إلي بأَنْبِجانيَّة رسول اللَّه وشعره، فأرسلتْ به معي أحمله، حتى دخلتُ به عليه، فأخذ الأَنْبِجانيَّة فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله وشربه وأفاض على جلده (٢).

وقال الأصمعي: عن الهُذَلي [عن الشعبي] (٣) قال: لما قدم معاويةُ المدينة عام الجماعة تلقَّته رجال من وجوه قريش، فقالوا: الحمد للَّه الذي أعزَّ نصرك، وأعلى أمرك. فما ردَّ عليهم جوابًا حتى دخل المدينة، فقصد المسجد، وعلا المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني -واللَّه- ما وليتُ أمركم حين وليتُه وأنا أعلم أنكم لا تُسَرُّون بولايتي ولا تحبُّونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد رمتُ نفسي على عمل ابن أبي قحافة، فلم أجدها تقوم بذلك ولا تقدر عليه، وأردتُها على عمل ابن الخطاب، فكانت أشدَّ نفورًا وأعظم هربًا من ذلك، وحاولتُها على مثل سنّيات عثمان، فأبتْ عليَّ، وأين مثلُ هؤلاء؟! ومَنْ يقدر على أعمالهم؟ هيهات أن يدرك فضلَهم أحدٌ ممن بعدهم، رحمة اللَّه ورضوانه عليهم، غير أني سلكتُ بها طريقًا لي فيه منفعةٌ ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مواكلةٌ حسنة، ومشاربةٌ جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خيرٌ لكم، واللَّهِ لا أحملُ السيف على مَنْ لا سيفَ معه، ومهما تقدَّم ما قد علمتموه


(١) تاريخ ابن عساكر، مختصره (٢٥/ ٤٤).
(٢) تاريخ ابن عساكر، مختصره (٢٥/ ٤٤ - ٤٥). "والأنبجانية": كساء من صوف منسوب إلى أنبجان.
(٣) سقط من ب، والخبر في مختصر تاريخ دمشق (٢٥/ ٤٥) وسير أعلام النبلاء (٣/ ١٤٨).