للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الناس بالإمارة وعزَّوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلَّم معه إِلَّا الضحاك بن قيس. فانتهى إلى باب تُوما (١)، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السُّور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه لأنه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير، فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه، فلمّا وصل إلى باب الصغير ترجَّل عند القبر ثم دخل فصلَّى على أبيه بعد ما دُفن، ثم انفتل، فلمّا خرج من المقبرة أُتي بمراكب الخلافة فركب. ثم دخل البلد، وأمر فنُودي في الناس: أنَّ الصلاة جامعة. ودخل الخضراء فاغتسل، ولبس ثيابًا حسنة، ثم خرج فخطب الناس [أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين] (٢) فقال بعد حمد اللَّه والثناء عليه: أيُّها الناس! إنَّ معاوية كان عبدًا من عبيد اللَّه، أنعم اللَّه عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممِّن بعده، ودون من قبلَه، ولا أزكِّيه على اللَّه ﷿ فإنه أعلم به، إنْ عفا عنه فبرحمته، وإنْ عاقبه فبذنبه، وقد وليتُ الأمر من بعده، ولست آسي على طلب، ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد اللَّه شيئًا كان. وقال لهم في خطبته هذه: وإنَّ معاوية كان يُغزيكم في البر والبحر، وإني لست حاملًا أحدًا من المسلمين في البحر. وإنَّ معاوية كان يُشتيكم بأرض الروم، ولست مُشتيًا أحدًا بأرض الروم. وإن معاوية كان يُخرج لكم العطاء أثلاثًا، وأنا أجمعه لكم كلَّه. قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضِّلون عليه أحدًا.

وقال محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: بعث معاوية -وهو مريض- إلى ابنه يزيد، فلمّا جاءه البريد ركب وهو يقول:

جاءَ البريدُ بقرطاسٍ يخُبُّ به … فأوجسَ القلبُ من قرطاسِهِ فَزَعا

قلنا: لكَ الويلُ ماذا في صَحيفتِكم؟ … قال: الخليفةُ أمسى مُثْقَلًا وَجِعا

فمادتِ الأرضُ أو كادتْ تَميدُ بنا … كانَ أغبرَ من أركانها انْقَلعا

ثم انبَعَثْنا إلى خُوصٍ مضمَّرةٍ … نرمي الفِجاجَ بها ما نَأْتلي سَرَعا

فما نُبالي إذا بلَّغن أرحُلَنا … ما ماتَ منهنَّ بالمرمات أو ظَلَعا

[لما انْتَهَيْنا وبابُ الدارِ مُنصفقٌ … بصوتِ رَمْلَةَ رِيعَ القلبُ فانصَدَعا

مَنْ لا تزلْ نفسُهُ تُوفّي على شَرفٍ … توشِكْ مقاليدُ تلكَ النفسِ أن تَقَعا] (٣)

أودَى ابنُ هندٍ وأودَى المجدُ يَتْبَعُهُ … كانا جميعًا خليطًا سالمَيْن مَعَا

أغرُّ أبلجُ يُسْتَسْقى الغمامُ بهِ … لو قارَعَ النَّاسَ عن أحلامِهِم قَرَعا


(١) "باب توما": أحد أبواب مدينة دمشق، وهو الآن علم لحي شهير فيها.
(٢) ما بين حاصرتين ليس في أ.
(٣) هذان البيتان من المطبوع فقط.