للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكعبة، فعلقت في أستارها وأخشابها فاحترقت، واسودَّ الركنُ وانصدعَ في ثلاثة أمكنة منه.

واستمر الحصار إلى مستهل ربيع الآخر، وجاء النَّاسَ نعيُ يزيد بن معاوية، وأنه قد مات لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو ابن خمس -أو ثمان أو تسع- وثلاثين سنة، فكانت ولايته ثلاث سنين وستة -أو ثمانية- أشهر، فغُلب أهل الشام هنالك وانقلبوا صاغرين، فحينئذ خمدت الحرب وطفئت نار الفتنة. ويقال: إنهم مكثوا يحاصرون ابن الزبير بعد موت يزيد نحو أربعين ليلة. ويذكر أن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أهل الشام، فنادى فيهم: يا أهل الشام! قد أهلك اللَّه طاغيتكم، فمن أحبَّ منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، ومن أحب أن يرجع إلى شامه فليرجع. فلم يصدِّق الشاميون أهل مكة فيما أخبروهم به، حتى جاء ثابت بن قيس بن القيقع (١) بالخبر اليقين.

ويذكر أن حُصين بن نمير دعاه ابن الزبير ليحدِّثه بين الصفَّين، فاجتمعا حتى اختلفت رؤوس فرسيهما، وجعلت فرس حصين تنفر ويكفُّها، فقال له ابن الزبير: مالك؟ فقال: إن الحمام تحت رجلي فرسي تأكل الروث فأكره أن أطأ حمام الحرم. فقال له: تفعل هذا وأنت تقتل المسلمين؟! فقال له حصين: فائذن لنا فلنطف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم، فطافوا.

وذكر ابن جرير (٢): أن حصينًا وابن الزبير اتَّعدا ليلة أن يجتمعا، فاجتمعا بظاهر مكة، فقال له حصين: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر بعده، فهلمَّ فارحل معي إلى الشام، فواللَّه لا يختلف عليك اثنان. فيقال: إن ابن الزبير لم يثق منه بذلك، وأغلظ له في المقال، فنفر منه ابن نمير وقال: أنا أدعوه إلى الخلافة وهو يغلظ لي في المقال؟! ثم كرَّ بالجيش راجعًا إلى الشام، وقال: أعده بالملك ويتوعدني بالقتل؟! ثم ندم ابن الزبير على ما كان منه إليه من الغلظة، فبعث إليه يقول له: أما الشام فلستُ آتيه، ولكن خذ لي البيعة على من هنالك، فإني أؤمنكم، وأعدل فيكم. فبعث إليه يقول له: إن من يبتغينا من أهل هذا البيت بالشام لكثير. ورجع فاجتاز بالمدينة، فطمع فيه أهلها، وأهانوهم إهانة بالغة، وأكرمهم علي بن الحسين (زين العابدين) وأهدى لحصين بن نمير قَتًا (٣) وعلفًا. وارتحلت بنو أمية مع الجيش إلى الشام، فوجدوا معاوية بن يزيد بن معاوية قد استُخلف مكان أبيه بدمشق عن وصية من أبيه له بذلك، واللَّه سبحانه أعلم.


(١) كذا في الأصول. وفي تاريخ الطبري (٥/ ٥٠١): المنقَع.
(٢) في تاريخه (٥/ ٥٠٢ - ٥٠٣) مع اختلاف ببعض الألفاظ.
(٣) "القت": الفصفصة، وهي الرطبة من علف الدواب.