للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومالًا كثيرًا، حتى صبَّ له من المال صبًا، مطرًا عظيمًا جرادًا من ذهب، وأخلفَ الله له أهلَه، كما قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ فقيل: أحياهم الله بأعيانهم، وقيل: آجرَه فيمن سلفَ وعوَّضه عنهم في الدنيا بدلهم وجمع له شمله بكُلِّهم في الدار الآخرة. وقوله: ﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ أي: رفعنا عنه شدَّته ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ رحمةً منا، ورأفةً وإحسانًا ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٤] أي: تذكرةً لمن ابتُلي ببلاءٍ في جسدِه أو مالِه أو ولدِه، فله أسوةٌ بنبيِّ الله أيوب حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبرَ واحتسبَ حتَّى فرَّجَ الله عنه.

ومنْ فهمَ من هذا اسمَ امرأته، فقال: هي رحمة، من هذه الآية، فقد أبعدَ النُّجعة وأغرقَ النَّزْعَ. وقال الضَّحَّاك، عن ابن عباس: ردَّ الله إليها شبابَها وزادَها، حتى ولدتْ له ستةً وعشرين ولدًا ذكرًا.

وعاش أيوب بعد ذلك سبعينَ سنة بأرض الروم، على دين الحنيفية، ثم غيَّروا بعدَه دين إبراهيم.

وقوله: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: ٤٤] هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب فيما كان من حَلْفه ليضربنَّ امرأته مئة سوطٍ. فقيل: حَلْفُه ذلك لبيعها ضفائرَها. وقيل: لأنه اعترضها الشيطانُ في صورة طبيبٍ يصفُ لها دواءً لأيوب، فانتبه فأخبرتْه، فعرفَ أنه الشيطان، فحلفَ ليضربنها مئة سوط. فلما عافاه الله ﷿ أفتاه أن يأخذَ ضغثًا -وهو كالعثكال- الذي يجمع الشماريخَ، فيجمعها كلَّها ويضربها به ضربةً واحدةً، ويكون هذا مُنزَّلًا منزلةَ الضرب بمئة سوْطٍ ويبرّ ولا يحنث.

وهذا من الفَرج والمَخْرج لمن اتقى اللهَ وأطاعَه، ولاسيما في حق امرأتِه الصابرةِ المُحتسبةِ المكابدةِ الصِّدِّيقةِ البَارَّة .

ولهذا عقَّبَ الله هذه الرخصة، وعلَّلها بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ وقد استعملَ كثيرٌ من الفقهاء هذه الرخصة في باب الأيمان والنذور، وتوسَّع آخرون فيها حتى وضعوا كتابَ الحيل في الخَلاص من الأيمان، وصدَّروه بهذه الآية الكريمة، وأتَوْا فيه بأشياء من العجائب والغرائب. وسنذكرُ طرفًا من ذلك في كتاب "الأحكام" (١) عند الوصول إليه إن شاء الله تعالى.

وقد ذكرَ ابنُ جرير (٢) وغيرُه من علماء التاريخ: أنَّ أيوبَ لما تُوفي كان عمره ثلاثًا وتسعين سنة. وقيل: إنه عاشَ أكثرَ من ذلك. وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه: أنَّ الله يحتجُّ يومَ القيامة بسليمان على الأغنياء، وبيوسف على الأرقاء، وبأيوب على أهلِ البلاء.


(١) كتاب "الأحكام" من الكتب التي بدأها ولم يتمَّها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.
(٢) ذكره ابن جرير في التاريخ (١/ ٣٢٤).