للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اغرب، فواللَّه ما منعني من الفرار يوم صفين إلا قول ابن الإطنابة حيث يقول: [من الوافر]

أبتْ لي عفتي وأبى بَلائي … وأَخْذي الحمدَ بالثَّمنِ الربيحِ

وإعطائي على الإعدامِ مالي … وإقدامي على البطلِ المُشيحِ

وقَوْلي كلما جشَأتْ وجاشتْ … مكانكِ تعذري (١) أو تستريحِي

لأدفعَ عنْ مآثرَ صالحاتٍ … وأحمي بعدُ عن أنفٍ صحيحِ (٢)

ثم كتب إلى أبيه: أن روِّه من الشعر، فروّاه حتى كان لا يسقط عنه منه شيء بعد ذلك، ومن شعره بعد ذلك: [من الطويل]

سيعلمُ مروانُ بن نِسوةَ أنني … إذا التقت الخِيلانُ أطعنها شزرا

وإني إذا حلَّ الضيوفُ ولم أجدْ … سوى فرسي أو سقته (٣) لهمُ نحرا (٤)

وقد سأل معاوية يومًا أهل البصرة عن ابن زياد فقالوا: إنه لظريف ولكنه يلحن، فقال: أو ليس [اللحن] أظرف له؟ قال ابن قتيبة وغيره: إنما أرادوا أنه يلحن في كلامه، أي يلغز، وهو ألحن بحجته كما قال الشاعر في ذلك:

منطقٌ رائعٌ ويلحنُ أحيانًا … وخيرُ الحديثِ ما كانَ لحنا (٥)

وقيل إنهم أرادوا أنه يلحن في قوله لحنًا وهو ضد الإعراب، وقيل أرادوا اللحن الذي هو ضد الصواب وهو الأشبه واللَّه أعلم. فاستحسن معاوية منه السهولة في الكلام وأنه لم يكن ممن يتعمق في كلامه ويفخِّمه، ويتشدق فيه، وقيل أرادوا أنه كانت فيه لكنة من كلام العجم، فإن أمه مرجانة كانت سُرِّية وكانت بنت بعض ملوك الأعاجم يزدجرد أو غيره، قالوا: وكان في كلامه شيء من كلام العجم، قال يومًا لبعض الخوارج: أهروري أنت؟ يعني أحروري أنت؟ وقال يومًا من كاتلنا كاتلناه، أي من قاتلنا قاتلناه، وقول معاوية ذاك أظرف له، أي: أجود له حيث نزع إلى أخواله، وقد كانوا يوصفون بحسن السياسة وجودة الرعاية ومحاسن الشيم.

ثم لما مات زياد سنة ثلاث وخمسين ولَّى معاوية على البصرة سَمُرة بن جندب سنة ونصفًا ثم عزله


(١) في ط وتاريخ الإسلام: تحمدي.
(٢) الأبيات في تاريخ دمشق (٣٧/ ٤٣٧ - ٤٣٨) ط دار الفكر، ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (١٥/ ٣١٤) وتاريخ الإسلام (٥/ ١٧٧) عدا الأخير.
(٣) في ط: أوسعته.
(٤) الأبيات في تاريخ دمشق (٣٧/ ٤٣٦) ط دار الفكر. ومختصر تاريخ دمشق (١٥/ ٣١٣) وقد قال هذه الأبيات حين وجهه مروان لحرب ابن الأشتر وقال: إياك والفرار كعادتك.
(٥) البيت في تاريخ دمشق (٣٧/ ٤٣٩) وفيه: منطق صائب، والعقد الفريد (٢/ ٤٨٠) ونسبه إلى مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري وفيه: مظق بارع.