للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال الأصمعي عن أبيه عن جده قال: خطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة ثم قطعها وبكى بكاء شديدًا ثم قال: يا ربّ إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم. منها، اللهمّ فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي. قال: فبلغ ذلك الحسن فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام (١). وقد روي عن غير واحد نحو ذلك، أي: أنه لما بلغه هذا الكلام قال مثل ما قال الحسن.

وقال أبو مسهر الدمشقي: وضع سماط عبد الملك يومًا بين يديه فقال لحاجبه: ائذن لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فقال: مات يا أمير المؤمنين، قال: فلأبيه عبد اللّه بن خالد بن أسيد، قال: مات، قال: فلخالد بن يزيد بن معاوية، قال: مات، قال فلفلان وفلان - حتى عدّ أقوامًا قد ماتوا وهو يعلم ذلك، فبكى وأمر برفع السماط وأنشأ يقول:

ذَهَبتْ لدَاتي وانقضَتْ أيامُهمْ … وغبرتُ بعدَهمُ ولستَ بخالدِ (٢)

[وقيل: إنه لما احتضر دخل عليه ابنه الوليد فبكى فقال له عبد الملك: ما هذا؟ أتحن حنين الجارية والأمة؟ إذا أنا متُّ فشمر واتّزر والبس جلد النمر، وضع الأمور عند أقرانها، واحذر قريشًا. ثم قال له: يا وليد اتق اللّه فيما أستخلفك فيه، واحفظ وصيتي، وانظر إلى أخي معاوية، فصل رحمه واحفظني فيه، وانظر إلى أخي محمد فأمّره على الجزيرة ولا تعزله عنها، وانظر إلى ابن عمنا علي بن عباس فإنه قد انقطع إلينا بمودّته ونصيحته وله نسب وحق، فصلْ رحمه واعرف حقه، وانظر إلى الحجّاج بن يوسف فأَكْرمه فإنّه هو الذي مهّد لك البلاد، وقَهَر الأعداء وخلّص لكم الملك، وشتت الخوارج، وأنهاك وإخوتك عن الفرقة وكونوا أولاد أم واحدة، وكونوا في الحرب أحرارًا، وللمعروف منارًا، فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها، إن المعروف يشيد ذكر صاحبه ويميل القلوب بالمحبة، ويذلل الألسنة بالذكر الجميل، وللّه در القائل:

إنَّ الأمور (٣) إذا اجتمعن فَرَامَها … بالكسرِ ذو حَنَق وبطشٍ مفند (٤)

عزّت فلمْ تكسرْ وإن هي بُدِّدَتْ … فالكسر والتوهينُ للمتبدِّدِ (٥)

ثم قال: إذا أنا مت فادع الناس إلى بيعتك فمن أبى فالسيف، وعليك بالإحسان إلى أخواتك فأكرمهن، وأحبُّهن إليّ فاطمة - وكان قد أعطاها فرطي مارية والدرة اليتيمة - ثم قال: اللهم


(١) تاريخ دمشق (٣٧/ ١٥٤).
(٢) المصدر نفسه (٣٧/ ١٥٥).
(٣) في تاريخ الإسلام (ص ١٤٣): القداح.
(٤) في تاريخ الإسلام: أيد.
(٥) الأبيات لابن عبد الأعلى الشيباني.