للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الزبير ومن عنده من الوقوف بعرفة، ولم يزل محاصره حتى ظفر به في جمادى سنة ثلاث وسبعين فقتله كما قدمنا، وأقام للناس الحج أيضًا في سنة أربع وسبعين (١)، ثم استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن، ثم نقله إلى العراق بعد موت أخيه بشر بن مروان، فدخل على أهل الكوفة كما ذكرنا، وقال لهم وفعل بهم ما تقدم إيراده مفصلًا، فأقام بين ظهرانيهم عشرين سنة كاملة. وفتح فيها فتوحات كثيرة، هائلة منتشرة، حتى وصلت خيوله إلى بلاد الهند والسند، ففتح فيها جملة مدن وأقاليم، ووصلت خيوله أيضًا إلى قريب من بلاد الصين، وجرت له فصول قد ذكرنا منها طرفًا جيدًا. ونحن نورد هنا أشياء أخر مما وقع له من الأمور والجراءة والإقدام، والتهاون في الأمور العظام، مما يمدح على مثله ومما يذم بقوله وفعله، مما ساقه الحافظ ابن عساكر (٢) وغيره:

فروى أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن كثير ابن أخي إسماعيل بن جعفر المديني ما معناه: أن الحجاج بن يوسف صلى مرة بجنب سعيد بن المسيّب - وذلك قبل أن يلي شيئًا - فجعل يرفع قبل الإمام ويقع قبله في السجود، فلما سلّم أخذ سعيد بطرف ردائه - وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة - فما زال الحجاج ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه سعيد فقال له: يا سارق يا خائن، قصلي هذه الصلاة، لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك. فلم يرد عليه، ثم مضى الحجاج إلى الحج، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائبًا على الحجاز. فلما قتل ابن الزبير كَرَّ راجعًا إلى المدينة نائبًا عليها، فلما دخل المسجد إذا مجلس سعيد بن المسيّب، فقصده الحَجّاج فخشي الناس على سعيد منه، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ فضرب سعيد صدره بيده وقال: نعم! قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيرًا، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك. ثم قام ومضى.

وروى الرّياشي، عن الأصمعي وأبي زيد، عن معاذ بن العلاء - أخي أبي عمرو بن العلاء - قال: لما قتل الحجّاج ابن الزبير ارتجّت مكة بالبكاء، فأمر الناس فجمعوا في المسجد ثم صعد المنبر فقال بعد حمد الله والثناء عليه: يا أهل مكة! بلغني إكباركم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فنزع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيء مانع العصاة لمنعت آدم حرمة الجنة، إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباح له كرامته، وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة، اذكروا الله يذكركم (٣).


(١) ساق ابن عساكر هذا الخبر بالسند في تاريخه (١٢/ ١١٧).
(٢) تاريخ دمشق (١٢/ ١١٩) وتهذيبه (٤/ ٥٢ - ٥٣).
(٣) تاريخ دمشق (١٢/ ١٢٠).