للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في أيام خلافته، وكان يخدُم نفسَه بنفسه، وقال: ما تركتُ شيئًا من الدنيا إلا عوَّضني الله ما هو خيرٌ منه، وكان يأكل الغليظ من الطعام أيضًا، ولا يُبالي بشيءٍ من النعيم، ولا يُتبعه نفسَه ولا يودُّه. حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهدَ من أويس القَرَني، لأنَّ عمر ملك الدنيا بحذافيرِها وزَهِد فيها، ولا ندري حالَ أويسٍ لو ملك ما ملكَهُ عمر كيف يكون؟ ليس منْ جرّب كمن لم يجرّب.

وتقدَّم (١) قولُ مالك بن دينار كان يقول الناس: مالك زاهد، إنما الزاهدُ عمر بن عبد العزيز. أتته الدنيا فاغرة فاها فردَّها.

وقال عبدُ الله بن دينار: لم يكنْ عمر يرتزقُ من بيت المال شيئًا؛ وذكروا أنه أمر جارية تروّحه حتى ينام فروَّحته، فنامتْ هي، فأخذ المِرْوحة من يدها وجعل يروَّحُها ويقول: أصابكِ من الحرِّ ما أصابني.

وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيرًا. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا.

ويقال: إنه كان يلبسُ تحت ثيابه مِسْحًا غليظًا من شعر، ويضع في رقبته غُلًّا إذا قام يصلِّي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنُّونه مالًا أو جوهرًا من حِرْصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غُلٌّ ومِسْح.

وكان يبكي حتى بكى الدَّمَ مع الدموع، ويقال: إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعُه من الميزاب.

وكان يأكلُ من العدَس ليرقَّ قلبُه ويغزر دمعه؛ وكان إذا ذُكر الموت اضطربتْ أوصاله.

وقرأ رجلٌ عنده ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ [الفرقان: ١٣] فبكى بكاءً شديدًا، ثم قام فدخل منزله وتفرَّق الناس عنه.

وكان يُكثر أن يقول: اللهمَّ سلِّمْ سلِّمْ، وكان يقول: اللهمَّ أصلحْ منْ كان في صلاحِه صلاحٌ لأمة محمد ، وأهلِك منْ كان في هلاكه صلاحُ أمةِ محمد .

وقال: أفضلُ العبادةِ أداءُ الفرائضِ واجتنابُ المحارم.

وقال: لو أنَّ المرء لا يأمرُ بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر حتى يُحكم أمرَ نفسه لتواكَلَ الناس الخير، ولذهب الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر.

ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة.

وقال: الدنيا عدوَّةُ أولياء الله، وعدوَّةُ أعداءِ الله، أمَّا الأولياء فغمَّتهم وأحزنتْهم، وأمَّا الأعداء فغرَّتْهم وشتَّتَتْهم وأبعدَتْهم عن الله.


(١) انظر ص ٢١ من هذا الجزء.

<<  <  ج: ص:  >  >>