للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= وروى ابنُ أبي الدنيا في كتاب "الرقة والبكاء" عن مولًى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له: يا بني، ليس الخير أنْ يُسمع لك وتُطاع، وإنما الخير أن تكون غفَلْتَ عن ربِّك ﷿ ثم أطعتَه، يا بني لا تأذنِ اليوم لأحدٍ عليَّ حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخافُ أنْ لا أعقِل عن الناس ولا يفهمون عنِّي، فقال له مولاه: رأيتُك البارحة بكيتَ بكاءً ما رأيتُك بكيتَ مثلَه، قال فبكى ثم قال: يا بني إني والله ذكرتُ الوقوفَ بين يدي الله ﷿. قال: ثم غُشي عليه فلم يُفقْ حتى علا النهار، قال: فما رأيتُه بعد ذلك متبسِمًا حتى مات.
وقرأ ذات يوم: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ [يونس: ٦١] الآية؛ فبكى بكاءً شديدًا حتى سمعه أهلُ الدار، فجاءتْ فاطمة فجلسَتْ تبكي لبكائه، وبكى أهلُ الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال، فقال له: يا أبة ما يبكيك؟ فقال: يا بني خير، ودَّ أبوك أنه لم يعرِف الدنيا ولم تعرفْه، والله يا بني لقد خَشيتُ أنْ أهلِكَ وأنْ أكون من أهل النار.
وروى ابن أبي الدنيا عن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنبري، قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشي، فلما انتهى إلى الناس رجَعَ الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر، فخطَب فقرأ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)﴾ [التكوير: ١] فقال: وما شأنُ الشمس ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ﴾ [التكوير: ١٢ - ١٣] فبكى وبكى أهلُ المسجد، وارتجَّ المسجد بالبكاء، حتى رأيت حيطانَ المسجد تبكي معه.
ودخل عليه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة، وانتهيتُ إلى الغاية، والله سائلك عني. فبكى عمر وقال له: كم أنتم؟ فقال: أنا وثلاثُ بنات. ففرض له على ثلاثمئة، وفرض لبناته مئة مئة، وأعطاه مئة درهم من ماله، وقال له: اذهب فاستنفِقْها حتى تخرج أعطياتُ المسلمين فتأخذ معهم.
وجاءه رجل من أهل أذْرَبيجان فقام بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين اذكرْ بمقامي هذا بين يديك مقامَك غدًا بين يدي الله، حيث لا يشغلُ الله عنك فيه كثرةُ منْ يخاصمُ، من يومٍ تلقاه بلا ثقةٍ من العمل، ولا براءةٍ من الذنب، قال: فبكى عمر بكاءً شديدًا ثم قال له: ما حاجتك. فقال: إنَّ عاملك بأذْرَبيجانَ عَدَا عليَّ فأخذ مني اثني عشرَ ألفَ درهم فجعلها في بيت المال. فقال عمر: اكتبوا له الساعةَ إلى عاملها، فليردَّ عليه. ثم أرسله مع البريد.
وعن زياد مولى ابنِ عياش قال: دخلتُ على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردةٍ شاتية، فجعلتُ أصطلي على كانونٍ هناك، فجاء عمر - وهو أمير المؤمنين - فجعل يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي: يا زياد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قصَّ عليّ، قلت: ما أنا بقاصّ. فقال: تكلَّمْ. فقلت: زياد. فقال: ما له. فقلت: لا ينفعه منْ دخل الجنة إذا دخلَ النار، ولا يضرُّه منْ دخل النار إذا دخل الجنة. فقال: صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في الكانون.
وقال له زياد العَبْدي: يا أميرَ المؤمنين لا تعملْ نفسك في الوصف واعملْها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أنَّ كل شعرةٍ فيك نطقَتْ بحمد الله وشكره والثناءِ عليه ما بلغتَ كنه ما أنتَ فيه. ثم قال له زياد: يا أمير المؤمنين أخبرْني عن رجلٍ له خَصْمٌ ألدّ ما حاله؟ قال: سيِّئ الحال. قال: فإنْ كانا خصمَيْن ألدَّين؟ قال: فهو أسوأ حالًا، قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: ذاك حيث لا يهنئه عيش. قال: فو الله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمدٍ إلا وهو خصمك. قال: فبكى عمر حتى تمنَّيت أني لم أكن حدثته ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدِيِّ بن أرطاة وأهل البصرة: أما بعد فإن من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أمورًا انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدمَ الحرام، وانتهكوا فيه الفروج الحرام، والمالَ الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحةً من أشربةٍ حلال، فمن ينتبذْ فلا ينتبذْ إلا من أسقيةِ الأدَم، =

<<  <  ج: ص:  >  >>