للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال له عبد الملك: أفلا قُلْت كما قال الأعشى لقيس بن مَعْدِيكَرِب:

وإذا تجيءُ كتيبةٌ مَلْمُومةٌ … شَهْباءُ يَخْشَى الذائدونَ صِيَالَها (١)

كنتَ المقدَّم غيرَ لابسِ جُنَّةٍ … بالسيفِ تَضْرِبُ مُعْلمًا أبطالَها (٢)

فقال: يا أمير المؤمنين وصفَهُ بالخَرَق ووصفتُك بالحَزْم.

ودخل يومًا على عبدِ الملك وهو يتجهَّزُ للخروج إلى مُصعب بن الزُّبير فقال: وَيْحك يا كُثَيِّر، ذكرتك الآنَ بشعرِك، فإنْ أصبتَهُ أعطيْتُكَ حكمك. فقال: يا أمير المؤمنين، كأنَّك لما ودَّعتَ عاتكةَ بنت يزيد بكَتْ لفراقِك فبكَى لبكائها حشَمُها فذكرتَ قولي:

إذا ما أرادَ الغَزْوَ لم تَثْنِ عَزْمهُ … حَصَانٌ عليها نَظْمُ دُرٍّ يَزينُها

نهَتْهُ فلمَّا لم ترَالنَّهيَ عاقَهُ … بكَتْ فبكى ممَّا عَرَاها قَطينُها (٣)

قال: أصبتَ فاحتكِمْ، قال: مئة ناقة من نُوقك المختارَة. قال: هي لك. فلما سار عبدُ الملك إلى العراق نظرَ يومًا إلى كُثَيِّر عزَّةَ وهو مفكِّرٌ في أمره فقال: عليَّ به. فلما جيء به قال له: أرأيتَ إنْ أخبرتُك بما كنتَ تفكِّر به تُعطيني حُكْمي؟ قال: نعم. قال: واللّه! قال: واللّه. قال له عبد الملك: إنك تقولُ في نفسك: هذا رجلٌ ليس هو على مذهبي، وهو ذاهبٌ إلى قتالِ رجلٍ ليس هو على مذهبي، فإنْ أصابَني سَهْمٌ غَرْبٌ من بينهما خَسِرْتُ الدنيا والآخرة. فقال: إي واللّه يا أمير المؤمنين فاحتكمْ، قال: أحتكمُ حُكْمي أنْ أرُدُّك إلى أهلك وأُحسنُ جائزتَك. فأعطاهُ مالًا وأذِن له بالانصراف.

وقال حمَّادُ الراوية عن كُثَيِّر عزَّة: وَفَدْتُ أنا والأحْوَص ونُصَيب إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيز حينَ ولي الخلافة، ونحن نمُتُّ إليه بصحبتنا إياه ومعاشرتنا له، [لما كان بالمدينة]، فكلٌّ منَّا يظنُّ أنه سيشرَكهُ في الخلافة. فنحنُ نسيرُ ونختالُ في رحالِنا، فلما انتهينا إلى خُنَاصِرَة ولاحَتْ لنا أعلامُها، تلَقَّانا مَسْلمةُ بنُ عبدِ الملك فقال: ما أقدَمَكم؟ أو ما علمتم أنَّ صاحبكم لا يحبُّ الشعرَ ولا الشعراء؟ قال: فوجَمْنا لذلك، فأنزلَنا مسلمةُ عندَه، وأجْرَى علينا النفقات، وعلَفَ دوابَّنا، وأقمْنا عندَه أربعةَ أشهر، لا يمكنُه أنْ يستأذِنَ لنا على عمر، فلما كان في بعض الجُمَع دنوت من الخليفة لأسمعَ خطبته فأسلّم عليه بعد الصلاة، فسمعتُه يقول في خطبته: لكل سفرٍ زادٌ لا محالة، فتزوَّدوا لسفرِكم من الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمنْ عايَنَ ما أعدَّ اللَّه له من عذابه وثوابِه فترْغَبوا وتَرْهَبوا، ولا يطولَنَّ عليكم الأمدُ


(١) في (ب، ح): "شمالها" بدل "صيالها"، والمثبت من (ق). ورواية الديوان "خرساءُ تُغشي من يزودُ نهالها".
(٢) في (ق): "جبة … يضرب"، تصحيف، والمثبت من (ب، ح) وديوان الأعشى ص (١٥٠).
(٣) البيتان من قصيدة يمدحه فيها في ديوان كثير ص (٢٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>