للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأطرَقَ رأسَه، وقال: هأنذا، فقالت: أنشدني من قولك كذا وكذا - لشعرٍ فيه رِقَّةٌ وتحنن - فقال: لستُ أحفظه ولكنْ أحفَظُ كذا وكذا - ويُعرضُ عن ذاك، ويُنشدُها شعرًا في مَدْحِ الحجَّاج - فقالت: لستُ أُريدُ هذا، إنما أريدُ كذا وكذا - فيُعرض عن ذاك ويُنشدها في الحجاج - حتى انقضى المجلس، فقال الحجاج: لله دَرُّك، أبَيْتَ إلا كرمًا وتكرُّمًا.

وقال أبو عكرمة (١): أنشدتُ أعرابيًّا بيتًا لجرير بن الخَطَفى:

أبدِّلَ الليلُ لا تَسْري كواكبُهُ … أو طالَ حتى حَسِبْتُ النَّجْمَ حَيْرانا (٢)

فقال الأعرابي: إنَّ هذا حسنٌ في معناه، وأعوذُ بالله من مثله، ولكنِّي أُنشدُك في ضدِّه من قولي:

وليلٍ لم يُقَصِّرْهُ رُقادٌ … وقصَّرهُ لنا وَصْلُ الحبيبِ

نعيمُ الحبِّ أورقَ فيهِ حتى … تناوَلْنَا جَنَاهُ مِنْ قَريبِ

بمجلسِ لذَّةٍ لم نقفُ فيهِ … على شكوى ولا عَيْبِ الذنوبِ

خَشينا أنْ نقطِّعهُ بلفظٍ … فترجمَتِ العيونُ عن القلوبِ

فقلت له: زِدْني، قال: أما من هذا فحسبك، ولكنْ أنشدك غيرَه، فأنشدني:

وكنتُ إذا عقدتُ حِبال قومٍ … صحبتُهُمُ وشيمتيَ الوفاءُ

فأُحسنُ حينَ يُحسنُ مُحسنوهمْ … وأجتنبُ الإساءةَ إنْ أساؤوا

أشاءُ سوى مشيئتهمْ فآتي … مشيئتَهمْ وأتركُ ما أشاءُ

قال ابنُ خلِّكان (٣): كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير:

إذا غَضبتْ عليكَ بنو تميمٍ … حسبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضابا

قال: وقد سأله رجلٌ: منْ أشعرُ الناس؟ فأخذ بيدِه وأدخلَهُ على أبيه، وإذا هو يرتضعُ من ثَدْي عَنْز، فاستدعاه، فنهَضَ واللبَنُ يَسيلُ على لحيته، فقال جريرٌ للذي سأله: أتُبْصرُ هذا؟ قال: نعم. قال: أتعرفه؟ قال: لا. قال: هذا أبي، وإنما يشربُ من ضَرْعِ العَنْز لئلا يَحْلِبَها فيسمعَ جيرانُه حِسَّ الحَلْب، فيطلبوا منه لبنًا؛ فأشْعَرُ الناسِ مَنْ فاخرَ بهذا ثمانينَ شاعرًا فغلَبَهُم (٤).

وقد كان بين جرير والفرزدق مُقاولاتٌ ومهاجاةٌ كثيرة جدًّا، يطولُ ذكرُها، وقد ماتَ في سنةِ


(١) في (ق): "عكرمة"، والمثبت من (ب، ح)، وهو أبو عكرمة عامر بن عمران الضبي.
(٢) البيت من قصيدة في ديوان جرير ص (٤٩٠).
(٣) انظر وفيات الأعيان (١/ ٣٢١).
(٤) أخرجه أبو الفرج في الأغاني (٨/ ٥٣ - ٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>