للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالخوارق التي دلَّت على صدقه فيما جاء به عمَّن أرسله، فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامةٍ لأنه ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ﴾، ولا يضرّكم ذلك، ﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا﴾ وقد تعرّضتم له ﴿يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ أي: وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاءٍ مما يتوعدكم به، فكيف بكم إن حلَّ جميعه عليكم.

وهذا الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطُّف، والاحتراز، والعقل التام.

وقوله: ﴿يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ يُحذِّرهم أن يُسلبوا هذا الملك العزيز فإنَّه ما تعرّض الدول للدِّين إلا سُلبوا مُلْكَهم وذلّوا بعد عزِّهم، وكذا وقع لآل فرعون؛ ما زالوا في شك، وريبٍ، ومخالفةٍ، ومعاندةٍ لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك، والدُّور والقصور والنِّعمة والحبور، ثمّ حوِّلوا إلى البحر مهانين، ونُقِلَتْ أرواحهم بعد العلوّ والرِّفعة إلى أسفل السّافلين. ولهذا قال هذا الرجل المؤمن الصّادق (١) البارُّ الراشد، التابع للحقّ، الناصح لقومه، الكامل العقل: ﴿يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: عالين على الناس حاكمين عليهم ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ أي: لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدّة، والقوَّة والشدّة لما نفعنا ذلك، ولا ردّعنا بأس مالك الملك.

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ﴾ أي: في جواب هذا كلِّه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ أي: ما أقول لكم إلا ما عندي، ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، وكذب في كل من هذين القولين، وهاتين المقدِّمتين، فإنّه قد كان يتحقَّق في (٢) باطنه وفي نفسه أنّ هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة، وإنّما كان يُظْهِرُ خلافه بغيًا وعدوانًا وعتوًّا وكفرانًا.

قال الله تعالى إخبارًا عن موسى أنه قال له (٣): ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (١٠٢) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (١٠٣) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ [الإسراء: ١٠٢ - ١٠٤].

وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: ١٣ - ١٤].

وأما قوله: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾، فقد كذب أيضًا، فإنّه لم يكن على رشادٍ من الأمر، بل كان على سَفَهٍ وضلالٍ وخَبَلٍ وخَيالٍ، فكان أولًا ممن يعبد الأصنام والأمثال، ثم دعا قومه الجَهَلَةَ الضُّلَّالَ إلى أن اتَّبعوه وطاوعوه وصدَّقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنّه ربٌّ، تعالى الله ذو الجلال (٤).


(١) في ط: المصدق.
(٢) في ب: يتحقق ويعلم في. .
(٣) قوله: أنه قال له. زيادة من ب.
(٤) في ب: مولانا ذو الجلال.