للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفجرُ إذا قدِ اجتمع معه مئتانِ وثمانيةَ عشرَ رجلًا فجعل زيدٌ يقول: سبحان الله! أينَ الناس؟ فقيل: هم في المسجد مَحْصورون. وكتب الحكمُ إلى يوسف بن عمر يعلِمهُ بخروجِ زيدِ بن عليّ، فبعث إليه سَرِيَّةً إلى الكوفة، وركبتِ الجيوشُ مع نائبِ الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضًا في طائفةِ كبيرةٍ من الناس، فالتقى بِمَنْ معه جُرْثومةً منهم فيهم خمسُ مئةِ فارس فهزمهم، ثم أتَى الكُنَاسةَ، فحلَّ على جَمع من أهلِ الشام فهزمهم، ثم اجتازَ بيوسفَ بنِ عمر وهو واقفٌ فوقَ تلّ، وزيدٌ في مئتي فارس، ولو قصد يوسفُ بن عمر لقَتَلَه، ولكنْ أخذ ذاتَ اليمين، وكلَّما التقى طائفة من أهلِ الكوفةِ هزمهم، وجعل أصحابُهُ ينادون: يا أهلَ الكوفة، اخرجوا إلى الدِّينِ والعِزِّ والدنيا، لستم في دينٍ ولا عِزٍ ولا دنيا، ثم لما أمسَوْا انضاف إليه جماعةٌ من أهلِ الكوفة وقد قُتل بعضُ أصحابِه في أولِ يوم، فلما كان في اليوم الثاني اقتتل هو وطائفةٌ من أهلِ الشام، فقتلَ منهم سبعين رجلًا، وانصرفوا عنه بشرِّ حال، وأمسَوْا، فعبَّأ يوسفُ بن عمر جيشَه جيدًا، ثم أصبحوا فالتقَوْا مع زيد بن عليٍّ في أصحابه، فكشفَهم حتى أخرجهم إلى السَّبَخَة، ثم شدَّ عليهم حتى أخرجهم إلى بني سُليم، ثم تَبِعهم في خيلِه ورَجِله، حتى أخذوا على المُسَنَّاة (١) ثم اقتتلوا هناك قتالًا شديدًا جدًّا حتى كان جُنْحُ الليل، فرُمِيَ زيدٌ بسهم فأصاب جانبَ جَبهتِه اليُسرى، فوصل إلى دِمَاغِه، فرجع ورجع أصحابُه. ولا يَظنُّ أهلُ الشامِ أنَّهم رجعوا إِلَّا للمساء والليل، وأُدخل زيدٌ في دار سكةِ البَرِيد، وجيء بطبيب فانتَزعَ ذلك السهمَ من جبهتِه، فما عَدَا أن انتزعه حتى ماتَ في ساعتِهِ .

فاختلف أصحابُهُ أين يدفِنُونَه؟ فقال بعضهم: ألبِسُوهُ دِرْعَهُ وألْقُوهُ في الماء. وقال بعضُهم: احتزُّوا رأسَهُ واتركوه في القتلَى. فقال ابنُه: لا والله لا تأكلُ أبي الكلاب. وقال بعضُهم: ادفِنوه في الكناسة (٢) وقال بعضهم: ادفِنُوهُ في الحفرةِ التي يؤخذُ منها الطِّين. ففعلوا ذلك، وأجرَوْا على قبرِهِ الماءَ لئلا يُعرَف، وتفلَّلَ أصحابُه (٣)، حيثُ لم يبقَ لهم رأس يقاتلون به، فما أصبح الفجرُ ولهم قائمةٌ ينهضون بها وتتبَّعَ يوسف بن عمر الجَرْحَى هل يجدُ زيدًا بينهم؛ وجاء مولًى لِزَيْد سِنْديّ، قد شَهِدَ دفنَه، فدلَّ على قبره، فأُخِذَ من قبرِه، فأمر يوسفُ بن عمر بصَلْبِه على خشبةٍ بالكُناسة، ومعه نصرُ بن خُزيمة، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري، وزياد النَّهْدي؛ ويُقال: إنَّ زيدًا مكَثَ مصلوبًا أربعَ سنين، ثم أُنزل بعدَ ذلك وأُحرق، واللّه أعلمُ.


(١) في (ق): "الساه"، وفي (ب): "اكناه"، وكلاهما تصحيف، والمثبت من (ح) وتاريخ الطبري، والمسنَّاة: - ضُفَيرة تُبنى للسَّيل لتردَّ الماء سميت مُسَنَّاة لأن فيها مفاتيح للماء بقدر ما تحتاج إليه مما لا يَغلِب، مأخوذٌ من قولك سنَّيتُ الشيءَ والأمر إذا فتحتَ وجهه. لسان العرب (سنن). وجاء فيه مادة (نجف): النجفةُ المسنَّاة، والنجف: التل. قال الأزهري: والنجفة التي بظهر الكوفة وهي كالمسناة تمنع ماء السيل أن يعلو منازل الكوفة ومقابرها.
(٢) في (ب، ق): "العباسة" وهو تحريف. والكناسة محلة معروفة بالكوفة.
(٣) في (ق): "وانفتل أصحابه"، والمثبت من (ب، ح)، والفَلُّ: المنهزمون. وفَلَّ القومَ يفُلّهم فَلًّا: هزمهم فانفَلُّوا وتَفَلَّلوا. وهم قوم فَلٌّ: منهزمون، والجمع فُلول وفُلَّال. لسان العرب (فلل).

<<  <  ج: ص:  >  >>