الحسنُ وابنُ سِيرين فسلَّمَا عليه، فبكى إياس، وذكر الحديث "القُضاةُ ثلاثة: قاضيانِ في النار وواحدٌ في الجنة"(١). فقال الحسن: فقد قال اللّه تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، قال: ثم جلس للناسِ في المسجد، واجتمعَ عليه الناسُ للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضيَّة، حتى كان يُشبَّهُ بشُرَيح القاضي.
ورُوِي عنه أنَّه كان إذا أشكلَ عليه شيءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه.
وقال إياس: إني لأكلِّمُ الناسَ بنصفِ عَقْلي، فإذا اختصم إليَّ اثنان جمعت لهما عقلي كُلَّه. وقال له رجل: إنَّك لتُعجَبُ بِرأيك. فقال: لولا ذلك لم أقْضِ به. وقال له آخر: إنَّ فيك خِصالًا لا تُعجبُنِي. فقال: تحكمُ قبلَ أنْ تفهم، ولا تجالسُ كلَّ أحد، وتَلبَسُ الثيابَ الغَلِيظة. فقال له: أيُّها أكثر، الثلاثة أو الاثنان؟ قال: الثلاثة. فقال ما أسرَعَ ما فهِمتَ وأجبتَ! فقال: أوَ يَجهَلُ هذا أحد؟! فقال: وكذلك ما أحكمُ أنا بِه. وأما مجالستي لكلِّ أحَد فأنْ أجتمعَ بِمَنْ يَعرِفُ لي قدري أحَبَّ إلي من أنْ أجتمع بِمَنْ لا يَعرِفُني. وأما الثيابُ الغِلاظ فأنا ألْبَسُ منها ما يَقِيني لا ما أقيهِ أنا.
قالوا: وتحاكمَ إليه اثنانِ قد أودَعَ أحدُهما عندَ الآخرِ مالًا، وجحَدَهُ الآخر، فقال إياس للمُودِع: أين أودعتَهُ؟ قال: عند شجرةٍ في بُستان، فقال انطِلقْ إليها فقِفْ عندَها لعلَّكَ تتذكَّرُ - وفي رواية: أنه قال له: هل تستطيعُ أنْ تذهبَ إليها فتأتيَ بورقٍ منها؟ قال: نعم - قال: فانطلق وجلس الآخر، فجعلَ إياسٌ يحكُمُ بين الناس، ويلاحظُه، ثم استدعاهُ فقال له: أوَصَلَ صاحبُكَ بعدُ إلى المكان؟ فقال: لا بعدُ أصلحكَ اللّه. فقال له: قُمْ يا عَدُوَّ اللّه، فأدِّ إليه حَقَّه، وإِلَّا جعلتُكَ نَكَالًا. وجاء ذلك الرجل، فقام معه فدفع إليه وديعتَهُ بكمالِها.
وجاء آخَرُ فقال له: إنِّي أودَعْتُ عندَ فلانٍ مالًا، وقد جَحَدني. فقال له: اذهَبِ الآنَ وأْتِنِي غدًا. وبعثَ من فَوْرِهِ إلى ذلك الرجل الجاحِدِ فقال له: إنَّه قدِ اجتمعَ عندَنا هاهنا مال، فلم نرَ لَهُ أمينًا نضَعُهُ عندَهُ إلَّا أنت، فضَعْهُ عندَكَ في مكانٍ حَرِيز. فقال له: سمعًا وطاعةً. فقال له: اذهبِ الآن وأْتِنِي غدًا. وأصبح ذلك الرجلُ صاحبُ الحق، فجاء فقال له: اذهَبِ الآن إليه، فقل له: أعطِني حَقِّي وإلَّا رفعتُكَ إلى القاضي. فقال له ذلك، فخافَ أنْ لا يُودعَ القاضي عنده المال فدفع إليه حقه وجاء إلى إياس فأعلمَهُ ثم جاء ذلك الرجلُ من الغَدِ رجاءَ أنْ يُودِع، فانتهرَهُ إياسٌ وطرَدَهُ وقال له: أنت خائن.
وتحاكَمَ إليه اثنان في جارية، فادَّعَى المشتري أنَّها ضعيفةُ العَقْل، فقال لها إياس: أيُّ رجلَيْكِ أطول؟ فقالت: هذه. فقال لها: أتذكرينَ ليلةَ وُلدتِ؟ فقالت: نعم. فقال للبائع: رُدَّ رُدّ.
(١) أخرجه الترمذي (٣/ ٦١٣) (١٣٢٢) عن بريدة في الأحكام: باب ما جاء عن رسول الله ﷺ في القاضي، وأبو داود (٣/ ٢٩٩) (٣٥٧٣) في الأقضية: باب في القاضي يخطئ، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده.