للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالخِلافة، فأبطأ عليه جوابُه، فمال إلى مُصالحةِ أبي جعفر، فاستأذن أبو جعفر أخاهُ السفَّاح في ذلك، فأذِنَ له في المصالحة، فكتب له أبو جعفر كتابًا بالصُّلح، فمكَثَ ابنُ هُبيرة يُشاور فيه العلماء أربعين يومًا، ثم خرج يزيد بن عمر بن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلاث مئة من البخاريَّة، فلمَّا دَنَا من سُرَادِق أبي جعفر همَّ أنْ يدخلَ بفرسَهِ فقال الحاجب سلام: انزِلْ أبا خالد. وكان حولَ السُّرادِق عشرة آلاف من أهل خُراسان، ثم أذن له في الدخول، فقال: أنا ومَنْ معي؟ قال: لا، بل أنتَ وحدَك. فدَخل، ووُضعت له وساد فجلس عليها، فحادثه أبو جعفر ساعة، ثم خرج من عندِهِ، فأتْبعَه أبو جعفر بصَرَه، ثم جعل يأتيهِ يومًا بعدَ يوم في خمس مئةِ فارس وثلاث مئة راجل، فشكوا ذلك إلى أبي جعفر، فقال أبو جعفر للحاجب: مُرْهُ فَلْيَأتِ في حاشيته. فكان يأتي في ثلاثين نفسًا، فقال الحاجب: كأنَّك تأتي متأهِّبًا (١). فقال: لو أمرتموني بالمشي لمشَيْتُ إليكم. ثم كان يأتي في ثلاثةِ أنفس، وقد خاطَبَ ابنُ هُبيرة يومًا لأبي جعفر فقال في غبون (٢) كلامه: يا هناه - أو قال: يا أيها المرء - ثم اعتذر إليه بأنه قد سبَقَ لسانُهُ إلى ذلك، فأعذَرَه.

وقد كان السفَّاحُ كتَبَ إلى أبي مسلم يستشيرُه في مصالحةِ ابنِ هُبيرة، فنَهاه عن ذلك، وكان السفَّاحُ لا يقطَعُ أمرًا دُونَ مراجعةِ أبي مسلم، فلما وَقَعَ الصُلْحُ على يدي أبي جعفر لم يحبَّ السفاحُ ذلك ولم يُعجِبْه. وكتب إلى أبي جعفر يأمرُ بِقَتْلِه، فراجَعَهُ أبو جعفر مرارًا لا يُفيدُهُ ذلك شيئًا، حتَّى جاء كتابُ السفَّاح: أن اقتُلْهُ لا محالة، لا حول ولا قوة إِلَّا باللّه العلي العظيم! كيف يُعطي الأمانَ ويَنْكُث؟! هذا فعلُ الجبابرة. وأقسم عليه في ذلك، فأرسل إليه أبو جعفر طائفة من الخُراسانية، فدخلوا عليه وعندَهُ ابنُه داود، وفي حجْرِهِ صبيٌّ صغير، وحوله مَوَاليه وحاجِبُه، فدافع عنه ابنُهُ حتَّى قُتل، وقُتل خلقٌ من مَوَاليه، وخَلَصوا إليه، فألقَى الصبيَّ من حجرِهِ وخَرَّ ساجدًا، فقُتل وهو ساجد. واضطربَ الناسِ، فنادى أبو جعفر في الناس بالأمان، إِلَّا عبدَ الملك بن بشر، وخالد بن سلمة المخزومي، وعمر بن ذَرّ. فسكَنَ الناس، ثم استؤمن لبعض هؤلاء وقُتل بعضهم.

وفي هذه السنة بعث أبو مسلم الخراساني محمد بن الأشعث إلى فارس، وأمرَهُ أنْ يأخذَ عُمَّالَ أبي سلمةَ الخلَّال فيضربَ أعناقَهم، ففعل ذلك.

وفيها ولَّى السفَّاحُ أخاه يحيى بن محمد الموصلَ وأعمالَها، وولَّى عمَّهُ داودَ مكَّةَ والمدينة واليمن


(١) في تاريخ الطبري (٤/ ٣٦٣): "مباهيًا".
(٢) كذا في الأصول، وقد تردد ذكر هذه الكلمة في عدد من أجزاء الكتاب مرارًا، وهو من قولهم غَبَنَ الثوبَ: إذا ثناه وعطَفَه والمراد هنا تضاعيف الكلام ومثانيه. انظر لسان العرب والقاموس (غبن).

<<  <  ج: ص:  >  >>