للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمراء للمنصور: إنَّا نرى أنْ لا تُجامعَهُ في الطريق، فإنَّ معه من الجنودِ مَنْ لا يُخالفُه، وهم لَهُ أهْيَب، وعلى طاعَتِهِ أحرص، وليس معَكَ أحد. فأخذ المنصورُ برأيه، ثم كان من أمرِهِ في مبايعته لأبي جعفر ما ذكَرْنا، ثم بعث إلى عَمَّه عبدِ اللَّه فكسَرَهُ كما تقَدَّم.

وقد بعثَ في غُبونِ ذلك (١) الحسنَ بن قَحْطَبَة لأبي أيُّوب كاتِبِ رسائلِ المنصور يشافههُ ويُخبِرُهُ بأنَّ أبا مسلمٍ متَّهَمٌ عند أبي جعفر، فإنَّهُ إذا جاءه كتابٌ منه يقرؤهُ ثم يَلْوِي شدقَيْه، وَيرْمِي بالكتابِ إلى أبي نصر، ويضحكانِ استهزاءً. فقال أبو أيوب: إنَّ تُهمة أبي مسلم عندنا أظهَرُ من هذا.

ولَمَّا بعث أبو جعفر مولاهُ أبا الخصيب يقطين ليحتاطَ على ما أُصيب من معسكر عبدِ اللَّه من الأموال والجواهر الثمينةِ وغيرِها غضب أبو مسلم، فشتَمَ أبا حعفرٍ وهَمَّ بأبي الخَصِيب حتَّى قيل له: إنما هو رسول، فتركَهُ ورجع أبو الخصيب. فلما قدم أخبر المنصورَ بما كان، وبما هَمَّ به أبو مسلم من قتلِه، فغضب المنصورُ وخشي أن يذهب أبو مسلم من مكانِه إلى خراسان فيشقُّ عليه تحصيلُهُ بعدَ ذلك، وأن تحدث حوادِثُ. فكتب إليه مع يقطين: إني قد ولَّيتك الشامَ ومِصر، وهما خيرٌ من خراسان، فابعَثْ إلى مصرَ مَنْ شئتَ وأقِمْ أنتَ بالشام لتكونَ أقربَ إلى أميرِ المؤمنين إذا أرادَ لقاءك كنتَ منه قريبًا. فغضب أبو مسلم من ذلك وقال: قد ولاني الشام ومصر، ولي ولايةُ خراسان، فإذًا أذهبُ إليها وأستخلفُ على الشام ومصر. فكتب إلى المنصور بذلك، فقَلِقَ المنصورُ من ذلك كثيرًا.

ورجع أبو مسلم من الشام قاصدًا خُراسانَ وهو عازِمٌ على مخالفةِ المنصور، فخرج المنصورُ من الأنبار إلى المدائن، وكتب إلى أبي مسلم بالمصيرِ إليه، فكتب إليه أبو مسلم وهو على الزَّاب عازِمٌ على الدخول إلى خُراسان، أنه لم يبقَ لأميرِ المؤمنين عدوٌّ إِلَّا مَكَّنَهُ الله منه، وقد كُنَّا نَرْوِي عن ملوكِ آلِ ساسان أنَّ أخوفَ ما يكونُ الوزراء إذا سكَنتِ الدهماء، فنحن نافرونَ من قُرْبِك، حريصون على الوفاءِ بعهدك ما وفيت، حَريُّونَ بالسمعِ والطاعة، غيرَ أنَّها من بعيد حيثُ يُقارِنُها السلامة، فإنْ أرضاكَ ذلك فأنا كأحسَنِ عبيدك، وإنْ أبيتَ إِلَّا أنْ تُعطيَ نفسك إرادَتَها نقَضْتُ ما أبرمتُ من عهدِكَ ضَنًّا بنفسي عن مقاماتِ الذُّلِّ والإهانة. فلما وصل الكتابُ إلى المنصور كتب إلى أبي مسلم: قد فهمتُ كتابَك، وليستْ صِفَتُكَ صِفَةَ أولئك الوزراء الغَشَشَة إلى ملوكِهم الذين يتمنَّوْنَ اضطرابَ حبلِ الدولةِ لكثرةِ جرائمهم، وإنما راحتهم في تبدُّدِ نظام الجماعة، فلِمَ سوَّيتَ نفسَكَ بهم وأنتَ في طاعتك ومُناصحتِك واضطلاعِكَ بما حملتَ من أعباء هذا الأمر على ما أنتَ به، وليس مع الشريطةِ التي أوجبَتْ منك سمعٌ ولا طاعة، وقد حمَّلَ أمير المؤمنين عيسى بن موسى إليك رسألةً ليسكُنَ إليها قلبُكَ إنْ أصغيتَ إليها، وأسألُ اللّهَ أنْ يحولَ


(١) يعني في أثناء ذلك، انظر حاشية (٢) الصفحة (٢٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>