للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابنُ جرير (١): وقال المنصورُ عند ذلك:

زعمتَ أنَّ الدَّيْن لا يُقتضَى .... فاستوفِ بالكَيْلِ أبا مُجْرِمِ

سُقيتَ كأسًا كنتَ تَسْقِي بها .... أمَرَّ في الحَلْق من العَلْقم

ثم إنَّ المنصورَ خطَبَ في الناسِ بعدَ قتلِ أبي مسلم فقال: أيها الناس، لا تُنَفِّروا أطيارَ النِّعَم بتَرْكِ الشُّكْر، فتَحِلَّ بكُمُ النِّقَم، ولا تُسِرُّوا غِشَّ الأئمَّة، فإنَّ أحدًا لا يُسِرُّ منكمْ شيئًا إِلَّا ظَهَرَ في فَلَتاتِ لسانِه، وصَفَحاتِ وَجْهِه، وطوالِعِ نَظَرِه، وإنَّا لنْ نجهَلَ حقوقَكُمْ ما عرَفْتُمْ حَقَّنا، ولا نَنْسى الإحسانَ إليكم ما ذكرتُمْ فضلَنا، ومنْ نازَعَنا هذا القَميص أوطأَنا أمَّ رأسِهِ حتَّى يستقيمَ رجالُكم، وترتَدِعَ عُمَّالُكم، وإنَّ هذا الغَمْرَ أبا مسلم، بايَعَ على أنَّهُ منْ نَكَثَ بيعتَنا، وأظهرَ غِشَّنا، فقد أباحَنا دَمَه، فنكَثَ وغدَرَ وفجَرَ وكفَر، فحكَمْنا عليه لأنفسنا حُكْمَهُ على غيرِه لنا؛ وإنَّ أبا مسلمٍ أحسَنَ مُبتديًا وأساءَ منتهيًا، وأخذَ من الناسِ بنا لنفسِهِ أكثرَ ممَّا أعطانا، ورَجَّحَ قبيحَ باطِنِه على حُسْنِ ظاهِرِه، وعَلِمْنا من خُبْثِ سريرَتِه وفسادِ نِيَّتِهِ ما لو علم اللائمُ لنا فيه لما لام، ولو اطَّلع على ما اطَّلَعْنا عليه منه لعَذَرَنا في قَتْلِه، وعَنَّفَنا في إمْهالِه، وما زال يَنْقُضُ بيعتَه، ويَخْفِرُ ذمَّتَه حتَّى أحلَّ لنا عقوبتَه، وأباحَنا دَمَه، فحكمنا فيه حُكْمهُ في غيرِهِ مِمَّنْ شقَّ العَصَا، ولم يمنَعْنا الحقُ له من إمضاءِ الحقِّ فيه، وما أحسن ما قالَ النابغةُ الذبياني للنعمان - يعني ابنَ المنذر:

فمنْ أطَاعكَ فانفَعْهُ بطاعتِهِ .... كما أطاعَكَ وادْلُلْهُ على الرَّشَدِ

ومنْ عصاكَ فعاقِبْهُ مُعاقبةً ..... تَنْهى الظلومَ ولا تَقْعُدْ على ضَمَدِ (٢)

وقد روى البيهقيُّ عن الحاكمِ بسندِه، أنَّ عبدَ اللَّه بنَ المبارك سُئل عن أبي مسلم، أهو خيرٌ أمِ الحجَّاح؟ فقال: لا أقولُ أنَّ أبا مسلمٍ كان خيرًا من أحد، ولكنْ كان الحجَّاج شرًّا منه، قد اتهمَهُ بعضُهم على الإسلام، ورَمَوْهُ بالزَّنْدقة؛ ولم أرَ فيما ذكروهُ عن أبي مسلم ما يدلُّ على ذلك، بل على أنه كان ممَّنْ يخافُ الله من ذنوبهِ، وقد ادَّعَى التَّوْبة فيما كان منه من سَفْكِ الدماء في إقامةِ الدولة العباسية، والله أعلمُ بأمرِه.

وقد روى الخطيب (٣) عنه أنه قال: ارتديتُ الصَّبْر، وآثرتُ الكفاف (٤)، وحالفْتُ الأحزانَ والأشجان، وشامَخْتُ (٥) المقاديرَ والأحكام، حتَّى بلغتُ غايةَ همَّتي، وأدركتُ نهايةَ بُغْيتي ثم أنشأ يقول:


(١) هو الطبري في تاريخه (٤/ ٣٨٦).
(٢) البيتان في ديوان النابغة الذبياني من قصيدة يمدح فيها النعمان المذكور ص (٣٠).
(٣) في تاريخ بغداد (١٠/ ٢٠٨).
(٤) في تاريخ الخطيب: "الكتمان"، وهو الأوفق.
(٥) في تاريخ الخطيب وسير أعلام النبلاء ٦/ ٥٣: "وسامحت".

<<  <  ج: ص:  >  >>