للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لمن استخفَّهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه: انظروا كيف انحسر البحرُ لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي وبلدي، وجعل يوري (١) في نفسه أن يذهب خلفهم ويُجوّز (٢) أن ينجو، وهيهات، ويقدم تارة ولكنه يحجم تارات. فذكروا أن جبريل تبدَّى في صورة فارسٍ راكبٍ على رَمَكَةٍ حائل (٣)، فمرَّ بين يدي فحلِ فرعون لعنه الله فَحمحم إليها وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه، فاقتحم البحر واستبق الجواد وقد أجاد، فبادر مسرعًا هذا وفرعون لا يملك من نفسه شيئًا ولا لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين (٤)، حتى هَمَّ أولُهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمَه فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فارتَطَم عليهم البحرُ كما كان، فلم ينج منهم إنسان.

قال الله تعالى: ﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ أي: في إنجائه أولياءه فلم يَغْرَق منهم أحد، وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحدٌ، آية عظيمةٌ، وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة، وصدق رسوله فيما جاء به عن ربّه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة.

وقال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ [يونس: ٩٠ - ٩٢].

يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كَفَرة القبط، وأنّه لما جعلت الأمواج تخفضه تارةً وترفعه أخرى، وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ماذا أحلَّ الله به وبهم من البأس العظيم، والخطب الجسيم، ليكون أقرَّ لأَعْيُن بني إسرائيل، وأشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلَكة، وأُحيط به، وباشر سكرات الموت، أناب حينئذٍ وتاب، وآمن حين لا ينفع نفسًا إيمانُها (٥)، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: ٩٦ - ٩٧].

وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: ٨٤ - ٨٥].


(١) في ب: يروّي.
(٢) في ط: ويرجو.
(٣) الرمكة: الفرس، والحائل: التي لم تحمل.
(٤) من صيغ التوكيد في العربية.
(٥) قال ﷿ في سورة الأنعام: ١٥٨ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.