واللّه يا أميرَ المؤمنين، لقد جئتُ وإني لوَجِل، فلمَّا رأيتُ استهانتَكَ بِهِمْ وإقدامَك عليهم قَوِيَ قَلْبي واطمأنّ، وما ظننتُ أنَّ أحدًا يكونُ في الحَرْب هكذا، فذاك الذي شجَّعني يا أمير المؤمنين، فأمر له المنصور بعشرةِ آلاف، ورضي عنه، وولَّاهُ اليمن، وكان مَعْنُ بن زائدةَ قبلَ ذلك متخفيًا، لأنَّهُ قاتَلَ المسوِّدَةَ مع ابنِ هُبيرة، فلم يظهروا إِلَّا في هذا اليوم، فلمَّا رأى الخليفةُ صِدْقَهُ في قتالِه رضي عنه.
ويُقال: إن المنصور قالَ عن نفسِه: أخطأتُ في ثلاث: قتلتُ أبا مسلم وأنا في جماعةٍ قليلة، وحين خرجتُ من الشام، ولو اختلف سيفان بالعراق لذهبَتِ الخلافة، ويوم الراوَنْدِيَّة، لو أصابني سَهْمٌ غَرْبٌ لذهبْتُ ضيَاعًا. وهذا من حَزْمِهِ وصرَامَتِه.
وفي هذه السنة ولَّى المنصورُ ابنَهُ محمدًا العَهْدَ من بعدِه، ودعاهُ بالمَهْدِيّ، وولَّاهُ بلادَ خُراسان، وعزَلَ عنها عبدَ الجبار بن عبد الرحمن، وذلك أنه قتَلَ خَلْقًا من شيعةِ الخليفة، فشكاهُ المنصورُ إلى أبي أيوب كاتبِ الرسائل، فقال: يا أمير المؤمنين، أكتُبْ إليه لِيَبْعَثْ جيشًا كَثِيفًا من خُراسان إلى غَزْوِ الروم، فإذا خرجوا بعثتَ إليه مَنْ شئتَ فأخرجوه من بلادِ خراسانَ ذَلِيلًا. فكتب إليه المنصورُ بذلك، فردَّ الجوابَ بأنَّ بلادَ خراسان قد عاثَّتْ بِهَا الأتراك، ومتى خرَجَ منها جيشٌ خِيفَ عليها، وفسَدَ أمرُها. فقال المنصور لأبي أيوب: ماذا ترى؟ قال: فاكتُبْ إليه: إن بلادَ خراسان أحَقُّ بالمَدَدِ لثغورِ المسلمين من غيرِها، وقد جهَّزْتُ إليك الجنود، فكتب إليه أيضًا: إنَّ بلادَ خُراسان ضيقَةٌ في هذا العامِ أقواتُها، ومتى دخلها جيشٌ أفسدَها. فقال الخليفةُ لأبي أيوب: ماذا تقول؟ فقال: يا أمير المؤمنين، هذا رجلٌ قد أبدَى صفحتَه وخُلع، فلا تُناظِرْه. فحينئذٍ بعث المنصورُ ابنَهُ محمدًا المهديَّ لِيُقيمَ بالرَّيّ. فبعث المهديُّ بين يديه خازمَ بن خُزَيمة، مقدمةً إلى عبدِ الجبار، فما زال به يَخْدَعُهُ ومَنْ معه حتَّى هرَبَ مَنْ معه، وأخذوهُ هو، فأركبوه بعيرًا محوَّلًا وجهُهُ إلى ناحيةِ ذَنَبِ البعير، وسَيَّروهُ كذلك في البلاد، حتَّى أقدموه على المنصور، ومعه ابنُه وجماعةٌ من أهلِه، فضَرَبَ المنصورُ عُنقَه، وسيَّرَ ابنَهُ ومَنْ معه إلى جزيرةٍ في طرَفِ اليمن، فأسرَتْهُمُ الهنودُ بعدَ ذلك، ثم فُودي بعضُهم بعدَ ذلك، واستقرَّ المهديُّ نائبًا على خراسان، وأمرَهُ أبوهُ أنْ يَغْزُوَ طَبَرِسْتان، وأنْ يُحاربَ الإصْبَهْبَذ بِمَنْ معه من الجنود، وأمدَّهُ بجيشٍ عليهم عمر بن العلاء، وكان من أعلمِ الناس بِحَرْبِ طَبَرسْتان، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
فقلْ للخليفة إن جئتَهُ .... نَصِيحًا ولا خيرَ في المتَّهَمْ
إذا أيقَظَتْكَ حُروبُ العِدَا .... فَنبِّهْ لَهَا عُمَرًا ثُمَّ نَمْ
فَتىً لا ينامُ على دِمْنَةٍ .... ولا يشرَبُ الماءَ إِلَّا بِدَم (١)
(١) الشاعر بشار بن برد، والأبيات من قصيدة في ديوانه ص (٥٨٨)، وتاريخ الطبري (٤/ ٣٩٨).