وكان عليها واليًا حتى ماتَ السفَّاح، فلما مات دعا إلى نفسِه فبعث إليه المنصورُ أبا مسلمٍ الخُراساني فهزَمَهُ أبو مسلم، وهرب عبدُ الله إلى عندِ أخيه سليمانَ بنِ عليٍّ والي البصرة، فاختفَى عندَه مُدَّةً، ثم ظهر المنصورُ على أمرِه فاستدعى به وسجَنَه؛ فلما كان في هذه السنة عزم المنصورُ على الحجّ، فطلب ابن أخيه عيسى بن موسى - وكان وليَّ العَهْدِ من بعدِ المنصور عن وصيَّةِ السفَّاح - وسلَّمَ إليه عمَّه عبدَ اللّه بن علي وقال له: إنَّ هذا عدوِّي وعدوُّك فاقتُلْهُ في غيبتي عنكَ ولا تتَوَانَى. وسار المنصورُ إلى الحجّ، وجعل يكتبُ إليه من الطريق يستحثُّه في ذلك ويقولُ له: ماذا صنعتَ فيما أوعزتُ إليك فيه؟ مرَّةً بعدَ مرَّة.
وأما عيسى بن موسى فإنَّه لمَّا تسلَّم عَمه حارَ في أمرِه وشاوَرَ بعضَ أهلِه؛ فأشار بعضُهم ممن له رأيٌ أنَّ المصلحةَ تقتضي أنْ لا تقتُله وأبقِهِ عندَك، وأظهِرْ قتلَه، فإنَّا نخشَى أنْ يطالِبَكَ به جَهْرةً فتقول قتلتُه، فيأمرُ بالقَوَد، فتدَّعي أنه أمَرَك بقتِلِهِ بالسِّرِّ بينك وبينه، فتعجز عن إثبات ذلك، فيقتُلَكَ به، وإنما يريدُ المنصورُ قتلَهُ وقتلَكَ ليستريحَ منكما معًا. فتغيَّرَ عيسى بنُ موسى عند ذلك، وأخفَى عمَّه، وأظهر أنه قتَله. فلما رجَعَ المنصورُ من الحجِّ أمَرَ أهله أنْ يدخلوا عليه ويشفَعُوا في عَمِّ عبدِ الله بن علي، فجاؤوا كلُّهم، فدخلوا عليه، وشفعوا في عبد اللّه بن علي، وألحُّوا في ذلك، فأجابَهم إلى ذلك، واستدعى عيسى بن موسى وقال له: إنَّ هؤلاءَ شفعوا في عبدِ الله بن علي وقد أجبتُهم إلى ذلك، فسلِّمْهُ إليهم. فقال عيسى: وأين عبدُ اللّه ذاك قتلتُهُ منذُ أمرتَني. فقال المنصور: لم آمُرْكَ بذلك، وجَحَد ذلك، وأنْ يكونَ تقدَّمَ إليه منه أمرُه في ذلك. فأحضَرَ عيسى الكُتبَ التي كتب إليه المنصورُ مرَّةً في ذلك، فأنكَرَ أنْ يكونَ أرادَ ذلك، وصمَّمَ على الإنكار، وصمَّمَ عيسى بنُ موسى أنه قد قتَله. فأمرَ المنصورُ عند ذلك بقتلِ عيسى بنِ موسى قِصَاصًا بعبدِ اللّه. فخرج به بنو هاشمٍ ليقتلوه، فلما جاؤوا بالسيف قال: رُدُّوني إلى الخليفة. فردُّوهُ إليه، فقال له: إنَّ عمَّكَ حاضرٌ ولم أقتُلْه. فقال: هلُمَّ بهِ فأحْضِرْه. فسُقِط في يدِ الخليفة، وأمرَ بسَجْنِه بدارٍ جدرانُها مبنيَّةٌ على مِلْح، فلمّا كان الليل، أرسل على جدرانِها الماء، فسقَطَ عليهِ البناءُ فهَلَك.
ثم إن المنصور خلَعَ عيسى بنَ موسى عن ولايةِ العَهْد، وقدَّمَ عليهِ ابنَهُ المَهْديّ، وكان يُجلِسُهُ فوق عيسى بنِ موسى عن يمينِه، ثم كان لا يلتفتُ إلى عيسى بنِ موسى، ويُهينُهُ في الإذْنِ والمشورَةِ، والدخولِ عليه، والخروجِ من عندِه؛ ثم ما زال يُقصيهِ ويُبعِدُه ويتهدَّده ويتوعَّدُه، حتى خلَعَ نفسَهُ بنفسِه، وبايَعَ لمحمدِ بن منصور، وأعطاهُ المنصورُ على ذلك نحوًا من اثني عشرَ ألفَ ألفِ دِرهم. وانصَلَح أمرُ عيسى بن موسى وبنيه عندَ المنصور، وأقبلَ عليهِ بعدَما كان قد أعرضَ عنه. وكان قد جرَت بينهما قبلَ ذلك مكاتباتٌ في ذلك كثيرةٌ جدًّا، ومُراوداتٌ في تمهيدِ البيعةِ لابنِهِ المهدي؛ وخلع عيسى نفسَه، وإنَّ العامَّةَ لا يَعْدلُوْنَ بالمهدِيِّ أحدًا؛ وكذلك الأمراءُ والخواصّ، ولم يزَلْ بهِ حتى أجابَ إلى ذلك مُكْرَهًا، فعوَّضَهُ عن ذلك ما ذكرنا. وسارتْ بَيْعَةُ المهديِّ في الآفاقِ شرقًا وغربًا وبُعدًا وقُربًا، وفرح المنصورُ