للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

منْ؟ فسكت الغلام، فقال: ما لَكَ لا تتكلَّم؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين إنَّ من خبَرِي كَيْتَ وكَيْت. فتغيَّر وجهُ الخليفة، ثم سأله عن أُمِّه، فأخبرَه، وسأله عن أحوالِ بلدِ المَوْصل، فجعل يُخبره والغلام يتعجَّب. ثم قام إليه الخليفةُ فاحتضَنَهُ وقال: أنتَ ابنِي. ثم بعثَهُ بعِقْدٍ ثمين، ومالِ جَزيل، وكتابٍ إلى أُمِّهِ يُعْلِمُهَا بحقيقةِ الأمر، وحالِ الوَلَد. وخرج الغلامُ ومعه ذلك من بابِ سرِّ الخليفة، فأحرَزَ ذلك، ثم جاءَ إلى أبي أيوب فقال: ما بَطَّأَ بكَ عند الخليفة؟ فقال: إنه استكتَبَني في رسائلَ كثيرة. ثم تقاولا، ثم فارقَهُ الغُلام مُغْضبًا؛ ونَهَضَ من فَوْرِهِ، فاستأجر إلى الموصل لِيُعْلمَ أُمَّهُ ويَحْمِلَها وأهلَها إلى بغدادَ إلى أبيهِ الخليفة؛ فسار مراحل، ثم سأل عنه أبو أيُّوب، فقيل: سافر. فظنَّ أبو أيُّوب أنه أفشَى شيئًا من أسرارِهِ إلى الخليفة، وفَرَّ منه، فبعثَ في طلبه رسولًا وقال: حيثُ وجدتَهُ فرُدَّهُ عليّ (١). فسارَ الرسولُ في طلبِهِ، فوجده في بعضِ المنازلِ، فخنقهُ وألقاهُ في بئر، وأخذ ما كانَ معَه. فرجع إلى أبي أيوب، فلما وقف أبو أيُّوب على الكتاب أُسقطَ في يدِه وندم على بَعْثِه خلفَه، وانتظر الخليفةُ عَودَ وَلَدِهِ إليه، واستبطأه، وكشَفَ عن خبَرِه، فإذا رسولُ أبي أيوب قد لَحِقه وقَتَله. فحينئذٍ استحضرَ أبا أيوب. وألزَمهُ بأموالٍ عظيمة، وما زال في العقوبةِ حتى أخذَ جميعَ أموالِهِ وحواصِلِه، ثم قَتَله، وجعل يقول: هذا قَتَل حَبيبي. وكان المنصورُ كلَّما ذكرَ ولدَهُ حزنَ عليه حزنًا شديدًا.

وفيها خرجتِ الخوارجُ من الصُّفْرِيَّة (٢) وغيرِهم ببلادِ إفريقيَة، فاجتمع منهم ثلاثُمئةِ ألفٍ وخمسون ألفًا، ما بين فارسٍ وراجل، وعليهم أبو حاتم الأنماطي، وأبو عبَّاد، وانضمَّ إليهم أبو قُرَّةَ الصُّفْري في أربعين ألفًا، فقاتلوا نائبَ إفريقية، فهزموا جيشَه، وقتلوه وهو عمر بن عثمان بن أبي صُفْرَة الذي كان نائبَ السِّنْد، فعزلَهُ المنصور عنها بسببِ مبايعتِهِ محمد بن عبد اللّه بن حسن، وولَّاه هذه البلادَ، فقتلَتْهُ الخوارج . وأكثرتِ الخوارجُ الفسادَ في البلاد، وقتلوا الحريمَ والأولاد، وآذَوْا عامّةَ العباد.

وفيها ألزم المنصورُ الناس بِلُبْسِ قلانسَ سودٍ طِوالٍ جدًّا حتى كانوا يستعينون على رفعها من داخِلها بالقَصَب فقال أبو دُلامةَ الشاعرُ في ذلك:

وكنَّا نُرَجِّي من إمامٍ زيادةً … فزادَ الإمامُ المرتَجَى في القلانسِ

تراها على هامِ الرجالِ كأنَّها … دِنَانُ يَهُودٍ جُلِّلَتْ بالبَرَانِسِ (٣)


(١) كذا في الأصول، وعبارة ابن عساكر: "فقال لرجلٍ من أصحابه: اخرُجْ إلى طريقِ الموصل، ثم أعط خبر الغلام مَنْزِلًا منزِلًا، حتى تأتي الموصلَ قريةَ كذا وكذا فإذا عرفتَ موضعَه فاقتُلْهُ وجِئْني بما معه". وهو أشبه بالصواب كما يبدو من السياق.
(٢) الصُّفْرِيَّة، - بالضم، ويكسرُ -: قَوْمٌ من الحَرُوريَّةِ، نُسِبوا إلى عبدِ اللّه بنِ صَفَّارٍ، ككَتَّانٍ، أو إلى زياد بن الأصْفَرِ، أو إلى صُفْرَةِ ألوانِهم، أو لِخُلُوِّهم من الدِّينِ. والمَهالِبةُ نُسبُوا إلى آلِ أبي صُفْرَةَ. القاموس (صفر).
(٣) البيتان في ديوانِ أبي دلامة ص (٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>