للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا شخصٌ راكبٌ على جَرَادة منها وعليه سلاحُ الحديد، وكلَّما قال بيدِهِ هكذا -إلى جهةٍ- مالَ الجرادُ مع يده وهو يقول: الدنيا باطل باطل باطل، وما فيها باطل باطل باطل.

وقال الأوزاعي: كان عندنا رجلٌ يخرجُ يومَ الجمعةِ إلى الصيد، ولا ينتظرُ الجمعة، فخُسف ببغلتِه، فلم يبقَ منها إلا أُذُناها.

وخرج الأوزاعيُّ (١) يومًا من بابِ مسجدِ بيروت، وهناك كان فيه رجلٌ يبيعُ النَّاطِف (٢)، وإلى جانبِهِ رجلٌ يبيع البصل وهو يقول له: يا بصل أحلى من العسل؛ أو قال: أحلى من الناطف. فقال الأوزاعي: سبحان اللَّه! [أيظنُّ هذا أنَّ شيئًا من الكذبِ يُباح؟ فكأنَّ هذا] (٣) ما يَرَى في الكذبِ بأسًا.

وقال الواقدي: قال الأوزاعي: كُنَّا قبل اليوم نضحكُ ونلعب، أمَّا إذْ صِرْنا أئمَّة يُقتدَى بنا فلا نرى أنْ يسعَنا ذلك، وينبغي أن نتحفَّظ.

وكتب إلى أخٍ له: أمَّا بعد، فقد أُحيط بك من كلِّ جانب، وانه يُسارُ بك في كلِّ يومٍ وليلة، فاحذرِ اللَّه والقيامَ بين يديه، وأنْ يكون آخرَ العهدِ بك، والسلام.

وقال ابنُ أبي الدنيا (٤): حدّثني محمد بن إدريس، سمعتُ أبا صالحٍ كاتبَ اللَّيث يذكُرُ عن الهِقْل بنِ زياد، عن الأوزاعي أنه وعَظَ فقالَ في موعظته: أيها الناس تقوَّوْا بهذه النِّعَم التي أصبحتم فيها على الهرَبِ من نار اللَّه الموقدة، التي تطَّلِعُ على الأفئدة، فإنَّكم في دارٍ الثَّوَاءُ فيها قليل، وأنتم عمَّا قليل عنها راحلون، خلائف بعدَ القرون الماضية، الذين استقبلوا من الدنيا آنَقَها وزهرتَها، فهم كانوا أطولَ منكم أعمارًا، وأمَدَّ أجسامًا، وأعظمَ أحلامًا، وأكثرَ أموالًا وأولادًا؛ فخدَّدوا الجبال، وجابوا الصخرَ بالواد، وتنقَّلوا في البلاد، مؤيَّدينَ ببطشٍ شديد وأجسادٍ كالعماد، فما لَبِثَتِ الأيامُ والليالي أنْ طوَتْ آثارَهم، وأخربتْ منازلَهم وديارَهم، وأنْسَتْ ذكرَهم، فـ ﴿هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ [مريم: ٩٨]، كانوا بِلَهْوِ الأمل آمنين، وعن ميقاتِ يومِ موتِهم غافلين، فآبوا إيابَ قومٍ نادمين، ثم إنكم قد علمتمُ الذي نزَلَ بساحتِهم بياتًا من عقوبة اللَّه، فأصبح كثيرٌ منهم في ديارِهم جاثِمين، وأصبح الباقون المتخلِّفون يُبصرون في نعمةِ اللَّه، وينظرون في آثار نِقْمَتِه، وزوالِ نعمتِه عمَّنْ تقدَّمَهم من الهالِكين، ينظرونَ واللَّهِ في مساكنَ خاليةٍ خاوية، وقد كانتْ بالعِزِّ مَحْفوفة، وبالنعم معروفة، والقلوب إليها


(١) من هنا إلى كلمة الأوزاعي في الخبر التالي ساقط من نسخة (ب).
(٢) الناطف: القُبَّيْط، لأنه يتنطف قبل استضرابه أي يسيل ويقطرُ قبل خثورته، وهو نوعٌ من الحلواء، يسمَّى القُبَّيْطَى إذا أنَّثوه، وإذا ذكَّروه قالوا: قُبَّيْط. لسان العرب (نطف).
(٣) ما بين معقوفين زيادة من (ق).
(٤) في كتابه الشكر ص (١٤) (٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>