للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مصعب بن ثابت بن عبد اللَّه بن الزبير فقال: يا أميرَ المؤمنين، لا يغرَّنَّك هذا الكلام من هذا، فإنه عاصٍ شاقّ، وإنما هذا منه مكْرٌ وخُبْث؛ وقد أفسَدَ علينا مدينتَنا وأظهر فيها العِصْيان. فقال له يحيى: ومن أنتم عافاكُمُ اللَّه، وإنما هاجر أبوك إلى المدينة بآبائي وآباء هذا. ثم قال يحيى: يا أمير المؤمنين، إنما الناسُ نحنُ وأنتم. واللَّه يا أمير المؤمنين، لقد جاءني هذا حين قُتل أخي محمد بن عبد اللَّه فقال: لعَنَ اللَّه قاتلَه، وأنشدني فيه نحوًا من عشرين بيتًا وقال لي: إنْ تحرَّكْتَ إلى هذا الأمر فأنا أولُ من يُبايعُك، وما يمنعُكَ أنْ تلحقَ بالبصرة وأيدينا معك. قال: فتغيَّرَ وجهُ الرشيد ووجهُ الزُّبيريّ، وأنكَرَ وشرَعَ يَحْلِفُ الأيمانَ المغلَّظَة إنه لكاذبٌ في ذلك. وتحَيَّرَ الرشيدُ ثم قال ليحيى: أتحفظُ شيئًا من المرثيَّة؟ قال: نعم، وأنشده منها جانبًا فازدادَ الزُّبير في الإنكار، فقال له يحيى بنُ عبدِ اللَّه: فقلْ إنْ كنتُ كاذبًا فقد برئتُ من حَوْلِ اللَّه وقُوَّتِه، ووَكَلَني اللَّه إلى حولي وقُوَّتي. فامتنعَ من الْحَلِفِ بذلك. فعزَمَ عليه الرشيد، فحلف بذلك، فما كان إلَّا أنْ خرجَ من عند الرشيد، فرَمَاهُ اللَّه بالفالِج، فمات من ساعته. ويُقال إنَّ امرأته غمَّتْ وجهَهُ بِمَخدَّة، فقتلَه اللَّه.

ثم إن الرشيد أطلق يحيى بن عبد اللَّه، وأطلق له مئة ألف دينار. ويُقال: إنما حبَسَه بعضَ يوم، وقيل ثلاثة أيام، وكان جملةُ ما وصله من المال من الرشيد أربعمئة ألف دينار من بيتِ المال، وعاش بعد ذلك كلُّه شهرًا واحدًا، ثم مات .

وفيها وقعَتْ فتنةٌ عظيمةٌ بالشام بين النِّزَاريَّة -وهم قَيْس- واليمانيَّة -وهم يَمَن-وهذا كان أولَ يومِ بُدوِّ أمرِ العشيرتينِ بحَوْران، وهم قيسٌ ويَمَن، أعادوا ما كانوا عليه في الجاهليَّة في هذا الآن؛ وقُتل منهم في هذه السنة بشرٌ كثير. وكان على نيابةِ الشام كُلِّها من جهةِ الرشيد ابنُ عمِّهِ موسى بن عيسى، وقيل عبد الصمد بن علي، فاللَّه أعلم. وكان على نيابةِ دمشق بخصوصها سِنْديُّ بن سهل أحدُ موالي جعفر المنصور. وقد هَدَمَ سورَ دمشق حين ثارَتِ الفتنةُ خوفًا من أنْ يتغلَّب عليها أبو الهيذام المِرِّي رأسُ القيسيَّة. وقد كان سنديٌّ هذا دميمَ الخلق. قال الجاحظ: وكان لا يُحلِّفُ المكاري ولا الملَّاح ولا الحائك ويقول: القولُ قولُهم؛ ويستخيرُ اللَّه في الحمَّال ومعلِّم الكُتَّاب. وقد تُوفِّي سنةَ أربعِ ومئتين.

فلما تفاقم الأمرُ بعَثَ الرشيدُ من جهته موسى بن يحيى بن خالد ومعه جماعةٌ من القُوَّاد ورؤوس الكُتَّاب، فاصلحوا بين الناس، وهدأتِ الفتنة، واستقام أمرُ الشام (١)، وحملوا جماعات من رؤوس الفتنة إلى دار السلام، فردَّ الرشيدُ أمرَهم إلى يحيى بن خالد، فعَفَا عنهم وأطلقهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

قد هاجَتِ الشامُ هيجًا … يُشيبُ راسَ وليدِهْ


(١) في (ق): "أمر الرعية"، وفي (ح): "أمر الرشيد"، والمثبت من (ب).

<<  <  ج: ص:  >  >>