للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَلُمَّ. فسرتُ معه، فلما كان ببعضِ الطريق سمع غلامًا يدعو جارية من دار، وإذا هو يدعوها باسم جاريةٍ له يُحبُّها. فانزعج لذلك، وشكا إليَّ ما لَقِيَ من ذلك؛ فقلت: أصابك ما أصابَ أخا بني عامرٍ حيثُ يقول (١):

وداعٍ دعا إذْ نحنُ بالخَيفِ منْ منًى … فهيَّجَ أحزانَ الفؤادِ ولا يَدْري

دَعا باسمِ ليلى غيرَها وكأنَّما … أطارَ بليلى طائرًا كانَ في صدري

فقال اكتبْ لي هذَيْنِ البيتين. قال: فذهبتُ إلى بقَّالٍ فرَهَنْتُ عنهُ خاتمي على ثَمَنِ ورَقَة، وكتبتُهما له، فأخذهما وقال: انطلِقْ راشدًا. فرجعتُ إلى مَنْزلي، فقال لي غُلامي: هاتِ خاتمكَ حتى نَرْهنهُ على طعامٍ لنا وعَلَفِ للدابَّة. فقلت: إني رَهَنْتُه. فما أمسَيْنا حتى أرسلَ إليَّ الفضلُ بثلاثين ألفًا من الذهب، وعشرةِ آلافٍ من الوَرِق، أجراهُ عليَّ كلَّ شهر، وأسلَفَني شهرًا.

ودخل على الفضل يومًا بعض الأكابر، فأكرمَهُ الفضلُ وأجلسَهُ معه على السرير؛ فشكا إليه الرجلُ دَيْنًا عليه، وسأله أنْ يُكَلِّمَ في ذلك أميرَ المؤمنين. فقال: نعَمْ، وكم دَيْنُك؟ قال: ثلاثُ مئةِ ألف درهم. فخرج من عندِه وهو مَهْمومٌ لضعفِ رَدِّهِ عليه؛ ثم مال إلى بعضِ إخوانه، فاستراحَ عندَه، ثم رجع إلى مَنْزِله، فإذا المالُ قد سبَقَهُ إلى دارِه. وما أحسنَ ما قال فيه بعضُ الشعراء:

لك الفضلُ يا فَضْلُ بنَ يحيى بنِ خالدٍ … وما كُلُّ منْ يُدْعى بفضلٍ لَهُ فَضْلُ

رأى اللَّهُ فَضْلًا منكَ في الناسِ واسِعًا … فسمَّاكَ فَضْلًا فالتقى الإِسمُ والفِعْلُ

وقد كان الفضلُ أكبرَ رتبةَ عندَ الرشيد من جعفر، وكان جعفرٌ أحْظَى عند الرشيد منه وأخَصّ. وقد ولَّى الفضلَ أعمالًا كبارًا، منها نيَابَةُ خراسانَ وغيرِها، ولما قتَل الرشيدُ البرامكةَ وحَبَسهم، جلَدَ الفضلَ هذا مئةَ سَوْط، وخَلَّدَهُ في الحبس حتى ماتَ في هذه السنة، قبلَ الرشيد بشهورٍ خمسة في الرقَّة. وصلَّى عليه بالقصرِ الذي ماتَ فيه أصحابُه. ثم أُخرجت جنازَتُه، فصلَّى عليها الناس، ودُفن هناك، وله خمسٌ وأربعون سنة. وكان سببَ موتِهِ ثِقَلٌ أصابَهُ في لسانِه، اشتدَّ بهِ يومَ الخميس ويومَ الجُمعة. وتُوفي قبلَ أذانِ الغداةِ من يوم السبت. قال ابنُ جرير (٢): وذلك في المحرَّم من سنةِ ثلاثِ وتسعين ومئة. وقال ابنُ الجوزي (٣): في سنةِ ثنتَيْنِ وتسعين. فاللَّه أعلم.

وقد أطال ابنُ خلِّكان ترجمتة (٤)، وذكر طَرَفًا صالحًا من محاسنِه ومكارمِه، من ذلك أنه ورَدَ بَلْخَ


(١) هو الشاعر قيس لبنى، والبيتان في ديوانه ص (٩٧).
(٢) يعني الطبري في تاريخه (٥/ ١٣).
(٣) في المنتظم (٩/ ٢٠٩).
(٤) بلغت ترجمته في وفيات الأعيان من (٤/ ٢٧) إلى (٤/ ٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>