وروى ابنُ عساكر (١)، عن إبراهيم المهدي قال: كنتُ يومًا عند الرَّشيد، فدعا طبَّاخَهُ فقال: أعندَك في الطعام لَحمُ جَزُور؟ قال: نعم، ألوانٌ منه. فقال: أحضِرْهُ مع الطعام. فلما وُضع بين يديه أخَذَ لقمةً منه فوضَعَها في فيه، فضَحِك جعفرٌ البرمكي، فترك الرشيدُ مضْغَ اللُّقمةِ وأقبل عليه فقال: ممَّ تضحك؟ قال: لا شيء يا أميرَ المؤمنين، ذكرتُ كلامًا بيني وبين جاريتي البارحة. فقال له: بِحَقِّي عليكَ لَمَّا أخبرتني به. قال: حتى تأكُلَ هذه اللُّقمة. فألقاها من فيه وقال: واللَّه لتخبرَنِّي. فقال: يا أمير المؤمنين، بكم تقولُ إنَّ هذا الطعام من لحم الجزور يقومُ عليك؟ قال: بأربعةِ دراهم. قال: لا واللَّه يا أمير المؤمنين، بل بأربعِ مئةِ ألفِ درهم. قال: وكيف ذلك؟ قال: إنك طلبتَ من طبَّاخِك لحمَ جزورٍ قبلَ هذا اليوم بمدَّةٍ طويلة، فلم يوجدْ عندَه، فقلت: لا يخلوَنَّ المطبخُ من لحمِ جزور. فنحنُ نَنْحَرُ كلَّ يومٍ جَزورًا لأجلِ مطبخ أميرِ المؤمنين، لأنَّا لا نشتري من السوق لحمَ جزور، فصُرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا أَربعُ مئة ألف درهم، ولم يطلُبْ أميرُ المؤمنين لحمَ جَزورٍ إلَّا هذا اليوم. قال جعفر: فضحكتُ، لأنَّ أميرَ المؤمنين إنما نالَهُ من ذلك هذه اللُّقمة، فهي على أمير المؤمنين بأربع مئة ألف.
قال: فبكى هارونُ الرشيد بكاءٍ شديدًا، وأمَرَ برَفْعِ السِّمَاطِ من بين يديه، وأقبل على نفسِهِ يُوبِّخُها ويقول: هلكت واللَّه يا هارون، ولم يزَلْ يبكي حتى آذنَهُ المؤذِّنون بصلاةِ الظُهر، فخرج فصلَّى بالناسِ ثم رجَعَ يبكي حتى آذنَهُ المؤذِّنون بصلاةِ العصر. وقد أمرَ بألفَيْ ألفٍ تُصرف إلى فقراءَ الحرمَيْن، في كل حَرَمٍ ألفُ ألف صدَقة؛ وأمر بألفَيْ ألفٍ يُتصدَّق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي، وبألفِ ألفٍ يُتصدَّق بها على فقراء الكوفةِ والبصرة. ثم خرج إلى صلاةِ العصر، ثم رجع يبكي حتى صلَّى المغرب، ثم رجع، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال: ما شأنُكَ يا أميرَ المؤمنين باكيًا في هذا اليوم؟ فذكر أمرَهُ وما صرَفَ من المال الجزيلِ لأجلِ شهوتِه، وإنما نالَهُ منها لقمة. فقال أبو يوسف لجعفر: هل كان ما تَذْبحونَهُ من الجزور يَفْسُدُ أو يأكلُهُ الناس؟ قال: بل يأكلُهُ الناس. فقال: أبشِرْ يا أميرَ المؤمنين بثوابِ اللَّه فيما صرَفْتَهُ من المالِ الذي أكلَهُ المسلمون في الأيامِ الماضية، وبمَا يسَّرَهُ اللَّه عليك من الصدقة، وبما رزقك اللَّه من خشيتِه وخَوْفِه في هذا اليوم، وقد قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]. فأمَرَ له الرشيد بأربعِ مئةِ ألف. ثم استدعَى بطعام، فأكل منه فكان غَدَاؤه في هذا اليوم عشاءً.
وقال عمرو بنُ بحر الجاحظ: اجتمع للرَّشيدِ من الجِدِّ والهَزْلِ ما لم يجتمعْ لغيرِه من بعدِه؛ كان أبو يوسف قاضيَه، والبرامكةُ وزراءَه، وحاجبُه الفضلُ بن الربيع، أنْبَهُ الناسِ وأشدُهم تعاظُمًا؛ ونَديمه عمُّه
(١) ليست ترجمة هارون الرشيد فيما طغ من تاريخ ابن عساكر، ويبدو أنها في الأجزاء المفقودة منه، وهذا الخبر، أورده ابن منظور في مختصره لتاريخ ابن عساكر (٢٧/ ١٣ - ١٥).