للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أي: تبنا إليك، ورجعنا، وأنبنا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جُبير، وأبو العالية، وإبراهيم التيمي، والضحَّاك، والسُّدّي، وقتادة، وغير واحد. وهو كذلك في اللغة (١).

﴿قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أي: أنا أعذِّب من شئتُ بما أشاء من الأمور التي أخلقها وأقدِّرها ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ كما ثبت في "الصحيحين" (٢) عن رسول اللّه أنه قال: "إنّ اللّهَ لَما فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمواتِ والأرْضِ كَتَبَ كِتابًا فَهُوَ مَوْضُوْعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي" ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ أي: فسأُوحيها حتمًا لمن اتصف بهذه الصفات ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ الآية. وهذا فيه تنويه بذكر محمد وأُمَّته من اللّه لموسى في جملة ما ناجاه به، وأعلمه، وأطلعه عليه. وقد تكلّمنا على هذه الآية وما بعدها في "التفسير" (٣) بما فيه كفاية ومقنع، وللّه الحمد والمِنَّة.

وقال قتادة: قال موسى يا رب أجد في الألواح أمّةً خير أمّةٍ أُخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ربّ اجعلهم أمتي، قال: تلك أمّةُ أحمد. قال: ربِّ إني أجد في الألواح أمّةً هم الآخِرون في الخلق، السابقون في دخول الجنة، ربِّ اجعلهم أمتي. قال: تلك أمّةُ أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمّةً أناجِيْلُهم في صدورهم يقرؤونها وكان مَن قبلهم يقرؤون كتابهم نظرًا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئًا ولم يعرفوه، وإن اللّه أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئًا لم يعطه أحدًا من الأمم، قال: ربّ اجعلهم أمتي: قال: تلك أمّةُ أحمد. قال: ربِّ إني أجد في الألواح أمّةً يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضَّلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذَّاب فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمّةً أحمد. قال: ربِّ إني أجد في الألواح أمّةً صدقاتهم يأكلونها في بطونهم، ويؤجَرون عليها، وكان مَن قبلهم إذا تصدَّق بصدقةٍ فَقُبِلتْ منه بعث اللّه عليها نارًا فأكلتها وإن رُدَّت عليه تُرِكت فتأكلها السباع والطير، وإن اللّه أخذ صدقاتكم من غنيِّكم لفقيركم، قال: ربِّ فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمّةُ أحمد. قال ربِّ فإني أجد في الألواح أمّةً إذا هَمَّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كُتبت له حسنةً فإن عملها كُتِبت له عشرُ أمثالها إلى سبعمئة ضعف، قال: ربِّ اجعلهم أمتي، قال: تلك أمّةُ أحمد. قال: ربِّ إني أجد في الألواح أمّةً هم المشفَّعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمّةُ أحمد. قال قتادة فذُكر لنا أن موسى نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمّةِ أحمد.

وقد ذكر كثيرٌ من الناس ما كان من مناجاة موسى ، وأوردوا أشياءَ كثيرةً لا أصل لها،


(١) في جمهرة اللغة (٢/ ٣٠٦): هاد الرجل يهود هَودًا: إذًا أناب ورجع. ومنه قول اللّه جل وعزّ: ﴿إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ﴾ أي: أننا ورجعنا. اللسان (هود)، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب (٥٤٤).
(٢) أخرجه البخاري: برقم (٧٤٠٤) في التوحيد، باب قوله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، ومسلم برقم (٢٧٥١) في التوبة، باب في سعة رحمة اللّه تعالى وأنها سبقت غضبه.
(٣) تكسير ابن كثير (٢/ ٢٥١).