للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذُكِر عن غير واحدٍ أنَّه كان شاطرًا (١) في بدء أمره، وأنَّ سبب توبته أنه وجد رُقْعَة فيها اسمُ اللَّه ﷿ في أتُونِ حمَّامٍ، فرفعها، ورفعَ طَرْفَه إلى السّماء، وقال: سيّدي! اسمُك هاهنا ملقًى! ثم ذَهَبَ إلى عطّار فاشترى بدرهم غاليه (٢) وضمَّخ تلك الرُّقْعَة منها، ووضعها حيث لا تُنال، فأحْيَى اللَّهُ قلبَه، وألهمه رشدَه، وصار إلى ما صار إليه من العبادة والزهادة (٣).

ومن كلامه: مَنْ أحبَّ الدنيا فليتهيَّأ للذُّلِّ. وكان يأكلُ الخبزَ وحدَهُ، فقيل له: بماذا تأتدم؟ فقال: أذكر العافيةَ فأجعلها أدْمًا.

وكان لا يلبَسُ نعلًا بل يمشي حافيًا، طرق يومًا بابًا، فقيل: من؟ فقال: بِشر الحافي. فقالت جارية أما وجَدَ دانقين (٤) يشتري له بها نعلًا ويستريح من هذا الاسم؟ قالوا: وكان سببُ تركه النعلَ: أنَّه جاء إلى حَذَّاء فطلب منه شِراكًا (٥) لنعله، فقال له: ما أكثرَ كلفتكم (٦) على الناس؟ فطرح النَّعلَ من يده، وخَلَعَ الأخرى من رجله، وحلَفَ لا يلبَسُ نعلًا أبدًا (٧).

قال ابن خلكان (٨): وكانت وفاته يومَ عاشوراء، وقيل: في رمضان ببغداد، وقيل: بمرو. قلت: الصحيح ببغداد في هذه السنة، وقيل: في سنة ستٍّ وعشرين، والأول أصحُّ، واللَّه أعلم.

وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد على (٩) بَكْرَةِ أبيهم، فأُخرج من بعد صلاة الفجر، فلم يستقرَّ في قبره إلا بعدَ العَتَمَةِ؛ وكان عليّ بن المدينيّ وغيرُه من أئمة الحديث يصيح بأعلى صوته في الجنازة: هذا واللَّه شرفُ الدنيا قبل شَرَفِ الآخرة (١٠).

ورُوي: أنَّ الجِنَّ كانت تنوحُ عليه في بيته الذي كان يسكن فيه. وأنَّه رآه بعضهم في المنام، فقال له: ما فَعَلَ اللَّهُ بك؟ فقال: غفَرَ لي ولكلِّ من شهد جنازتي، ولكل مَن أحبَّني إلى يوم القيامة (١١).


(١) "الشاطر": الخبيث الفاجر، وجمعها شُطَّار.
(٢) "الغالية": الطيب.
(٣) تاريِخ ابن عساكر (المجلدة العاشرة/ ٣٩)، ومختصره (٥/ ١٩١)، وتهذيب الكمال (٤/ ١٠٣).
(٤) في أ: دانقًا. و"الدَّانق": سُدُسُ دِرْهم، معرَّب.
(٥) "شِراك النعل": سيرُها الذي على ظهر القدم.
(٦) بعد هذا في ط: "يافقراء"، وليست في النسخ ولا وفيات الأعيان (١/ ٢٧٥).
(٧) تاريخ بغداد (٧/ ٦٩)، وتاريخ ابن عساكر (المجلدة العاشرة/ ٤١)، ومختصره لابن منظور (٥/ ١٩٢)، وتهذيب الكمال (٤/ ١٠٢).
(٨) وفيات الأعيان (١/ ٢٧٦).
(٩) في النسخ: عن بكرة.
(١٠) ابن عساكر (المجلدة العاشرة/ ٧٩)، ومختصره (٥/ ٢٠٤)، وتهذيب الكمال (٤/ ١٠٨).
(١١) ابن عساكر (المجلدة العاشرة/ ٨٠، ٨٢)، ومختصره (٥/ ٢٠٤، ٢٠٦)، وتهذيب الكمال (٤/ ١٠٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>