للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


= (١) لسان السلطان كيت وكيت. فمثل هذا معناه مفهوم، وأما أن اللّه هو المتكلم على لسان البشر كما يتكلم الجني على لسان المصروع، فهذا كفر صريح. وأما إذا ظهر مِثل هذا القول عن غائب قد رفع عنه القلم لكونه مصطلمًا في حال من أحوال الفناء والسكر، فهذا تكلَّمَ به في حال دَفعَ عنه فيها القلمُ، فالقول وإن كان باطلًا لكن القائل غير مؤاخذ، ومثل هذا تعرض لمن استولى عليه سلطان الحب مع ضعف القلب، كما يقال: إن محبوبًا ألقى نفسه في اليم، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت، فلم وقعت خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني. وقد ينتهي بعض الناس إلى مقام يغيب معبود عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، فإذا ذهب تمييز هذا، وصار غائب العقل بحيث يرفع عنه القلم لم يكن معاقبًا على ما تكلم به في هذه الحال، مع العلم بأنه خطأ وضلال، وآفة حال لا يكون لألباء الرجال.
وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه أربعين كلمة، أو إظهار الفرح بالقتل، أو نحو ذلك، كله كذب. وقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في "أخبار الخلفاء" وقد شهد مقتله، وكما ذكر المحسن التنوخي، وكما ذكر إسماعيل بن علي الخطبي في "تاريخ بغدادًا" وقد شهد قتله، وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه"، وكما ذكر القاضي أبو يعلى في "المعتمد"، وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب وأبو محمد بن حزم وغيرهما، وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبو الفرج بن الجوزي فيما جمعا من أخباره. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية" أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق. ولم يذكره أبو القاسم القشيري في "رسالته" في المشايخ الذين عدَّهم من مشايخ الطريق، وما يعلم أحد من أئمة الإسلام ذكر الحلاج بخير لا من العلماء ولا من المشايخ، ولكن بعض الناس يقف فيه، لأنه لم يعرف أمره، فأبلغ من يحسن الظن به يقول: إنه وجب قتله في الظاهر، والقاتل مجاهد، والمقتول شهيد. وهذا أيضًا خطأ. وقول القائل: إنه قتل مظلومًا ظلمًا باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه صار زنديقًا، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة المرتدين، وأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل الحديث، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر يقبل توبته. وقد اتفقوا على أنه إذا قتل قبل هذا لا يقال إنه قتل ظلمًا.
وأما قول القائل إن الحلاج من أولياء اللّه [كذا والعبارة فيها سقط] فإن ولي الله من مات على ولاية اللّه، والله يحبه ويرضى عنه، والشهادة بهذا لغير من شهد له النَّبِيّ بالجنة لا يجوز عند كثير من العلماء أو أكثرهم، وذهبت طائفة من السلف كأبي حنيفة وعلي المديني إلى أنه لا يشهد بذلك لغير النَّبِيّ ، وقال طائفة: بل من استفاض في المسلمين الثناء عليه شهد له بذلك، لأن النَّبِيّ مر عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيرًا. فقال: وجبت وجبت. ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا فقال: وجبت وجبت. قال: يا رسول الله، ما قولك وجبت وجبت؟ قال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا، فقلت: وجبت لها الجنة. وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا، فقلت: وجبت لها النار، أنتم شهداء اللّه في الأرض [صحيح البخاري (١٣٠١) في الجنائز، وصحيح مسلم (٩٤٩) في الجنائز].
وإذًا جوز أن يشهد لبعض الناس أنه من أولياء الله في الباطن، إما بنصٍّ، وإما بشهادة الأمة، فالحلاج ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء، فجمهور الأمة يطعن عليه، ويجعله من أهل الإلحاد، وإن قدر أنه يطلع على بعض الناس أنه ولي الله بكشف ونحو ذلك مما يختص به بعض أهل الصلاح، فهذا الذي أثنى على الحلاج، ووافقه على اعتقاده ضالٌّ من وجوه، أحدها أنه لا يعرف فيمن قتل بسيف الشرع على الزندقة أحد قتل ظلمًا وكان وليًا للّه، فقد قتل الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدري ومحمد بن سعيد المصلوب وبشار بن برد الأعمى، وأمثال =

<<  <  ج: ص:  >  >>